للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

للتردد والتفكير أثناء المسافة بين القصر والجبل، ثم صعود الجبل، والذي يؤكد لنا أن الملك كان يفعل ذلك بقصد ردة الغلام هو أنه طلب من أصحابه أن يعرضوا عليه الارتداد في ذروة الجبل وقبل أن يقذفوه.

ولكن الغلام يدعو الله فوق الجبل: «اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ».

بأي كيفية يرضاها الله - سبحانه وتعالى - وبأي سبب يختاره - عز وجل - فليس التوكل على الله عند المؤمن محدودًا بخبرة الواقع ودراسة الظروف لأنه لو كان الأمر كذلك لما استطاع الغلام أن يدعو بهذا الدعاء؛ لأن الواقع لم يكن يحتمل أي تفكير، ولكنه التوكل بكامل حقيقته وجوهر معناه انطلاقًا إيمانيًا لا يتقيد بضيق الواقع وارتفاعًا وجدانيًا لا يهبط بشدة الظروف.

وعندما يتحقق التوكل، تتحقق الاستجابة بإذن الله.

فَرَجَفَ بِهِمْ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ.

وسبب عودته إلى الملك هو سبب طلبه للنجاة من أصحاب الملك فوق الجبل وهو أن الدعوة لم تتم، وليست الحياة هدفًا يحرص عليه الدعاة إلا من خلال كونها ضرورة من ضرورات الدعوة سواء أكان تحقيق هذه الضرورة يتطلب الحرص على الحياة أو الحرص على الموت.

والذين يفسرون مصلحة الدعوة بالحرص على حياة الدعاة فحسب هم أصحاب التصور الناقص الذي لا يعدو أن يكون فلسفة للجبن أو للارتداد عن سبيل الله. والذين يندفعون إلى الموت برغبتهم النفسية دون اعتبار لمصلحة الدعوة إنما يبددون بذلك الاندفاع والتهور طاقة الدعوة وإمكانياتها.

وكما أن مصلحة الدعوة هي الحد الفاصل بين الجبن والشجاعة، فهي أيضًا الحد الفاصل بين الشجاعة والتهور، فالجُبْن هو عدم الاستعداد للتضحية، والتهور هو التضحية بلا ضرورة أو منفعة، والشجاعة هي التضحية الضرورية النافعة، وعلى هذا

<<  <  ج: ص:  >  >>