[شرح حديث: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة)]
من الأحاديث حديث أبي موسى الأشعري الذي يبين فيه النبي صلى الله عليه وسلم الفرق بين المؤمن والمنافق، فهنا يقول: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن، ومثل المنافق -وفي رواية الفاجر- الذي يقرأ القرآن ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن.
فكأن الناس منهم مؤمنون ومنهم منافقون ومنهم فجار، والمنافقون والفجار جعلهم في هذا الحديث في مرتبة واحدة في حفظهم للقرآن أو عدم حفظهم للقرآن، والمؤمنون هنا ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم على قسمين: مؤمن قارئ للقرآن يعني: حافظ له، وقد وصفه بقوله: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة: ريحها طيب، وطعمها طيب)، والأترجة نوع من الموالح مثل البرتقال، وهو نوع من الحمضيات، وريحها طيب وطعمها طيب، فالمؤمن الذي يحفظ القرآن سواء حفظه كله أو حفظ بعض كتاب الله سبحانه، مثله كمثل هذه الأترجة الثمرة طيبة لذيذة الطعم.
(مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب) فهذا لا تعدم منه خيراً أبداً، ففي مجالسته لك خير، وفي مكالمتك له خير، فتسأله وتستفهمه عما تريد من أمر دينك وتتعلم منه؛ لأنه يقرأ القرآن.
والصحابة كانوا يقرءون القرآن كما علمهم النبي صلوات الله وسلامه عليه، وليس مجرد حفظ كما هو حال كثير من الناس في زماننا، فيحفظ القرآن ولا يفهم شيئاً من معانيه، ويحفظ القرآن ولا يدري ما الذي يقرأه.
وهذا خلاف ما كان يفعله الصحابة فقد كانوا يتعلمون القرآن علماً وعملاً، ويقرأ الواحد منهم ويتلو القرآن ويعلم ما فيه ويفهم معانيه؛ لأنه صاحب لسان ومن أهل اللغة العربية، فهم يفهمون القرآن العظيم، فلذلك إذا قيل: هذا قارئ للقرآن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمعناه: أنه قارئ حافظ عالم بمعانيه عامل بما فيه، فهؤلاء هم أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فالذي يتشبه بهؤلاء مثله مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، فتكون قراءته للقرآن شيء حسن، وقراءة القرآن دليل على أنه يعرف أحكام القرآن فيعمل بها، فإذا خبرت هذا الإنسان واختبرته وجدته عاملاً به، ومثل هذا الإنسان مثل ما تجد الثمرة عندما تأخذها وتجد أن ريحتها طيبة، وعندما تتذوق طعمها تجد طعمها جميل، فحافظ القرآن من المؤمنين كذلك: ظاهره طيب، وباطنه طيب.
وأما الصنف الثاني من المؤمنين: فهم من لا يحفظ القرآن ولا بعضه، فقد قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها، وطعمها حلو)، فالتمرة تراها من بعيد فلا تشم لها رائحة، فلا نفع في أنك تراها من بعيد، لكن نفعها في أن تأكلها، فإذا أكلتها وجدت فائدتها، فكذلك الإنسان المؤمن الذي لا يحفظ القرآن، فيكون النفع في التعليم غير موجود، لكن النفع في العمل موجود، وأن هذا المؤمن يعمل لله سبحانه وتعالى، فتجده في العمل يعمل ولكن في التعليم لا يوجد له أثر؛ لأنه لا يحفظ كتاب الله عز وجل، ولا يعرف أحكامه.
وهناك فرق كبير بين من يحفظ ويعلم ويعمل وبين من يعمل ولا يحفظه.
ثم ذكر في الحديث صنفاً غير المؤمنين وهم المنافقون والفجار، فجعلهم مع القرآن بمنزلة المنافق، إما منافق يحفظ القرآن أو يحفظ بعضه، وإما منافق لا يحفظ شيئاً من القرآن، والمنافق الذي يحفظ القرآن قال لنا: (مثله مثل الريحانة)، فعندما تشم ريحانة تجد رائحتها جميلة من بعيد، ولكن عندما تتذوقها تجد طعمها مر، وكذلك المنافق، فتنتفع من المنافق الذي يقرأ القرآن بشيء فلعله يقرأ القرآن بصوت جميل، فيعجبك صوت، ولعلك تسأله عن أماكن الآيات فيجيبك، وتجده لا يعمل بشيء مما ورد في القرآن، فيستبيح لنفسه أن يكذب وينافق ويرائي ويخادع ويخون؛ ولهذا شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالريحانه؛ فرائحتها فيها فائدة، وهذا مثل كلامه المحسَّن، وأما عمله فلا فائدة فيه، فهو منافق، فإذا خبرته وجدت المرارة في عمله، ووجدت بعده عن دين الله سبحانه وتعالى.
والمنافق أو الفاجر الأخير الذي جاء ذكره في الحديث هو الذي لا يقرأ القرآن، وبهذا يكون قد جمع الشر كله، فهو لا يعرف شيئاً في دين الله عز وجل، ولا يعمل بما أمر الله سبحانه، فمثله كمثل الحنظلة رائحتها غير طيبة، فلا تنتفع برائحتها، فهو لا يعلَم ولا يعلِّم، وكذلك إذا خبرته وبلوته في العمل وجدت منه المرارة في أعماله، ووجدت منه الخيبة والخسران في أقواله وأفعاله، قال صلى الله عليه وسلم: (كمثل الحنظلة: ليس لها ريح وطعمها مر).
ولذلك فالإنسان المؤمن الذي يجد هذه الصور الأربع التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم يتنافس في أعلى ما يكون وأفضل ما يكون، ويحاول أن يحفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، وحفظ القرآن يسير على من يسره الله عز وجل له، وإنما يحتاج لإرادة وعزيمة، والإنسان المؤمن الذي يحب أنه يحفظ القرآن سيعينه الله على ذلك، وحفظ القرآن لن يكون بين يوم وليلة، وإنما يحتاج لمكافحة ومتابعة ومحافظة على ما تحفظه بمراجعة ما سبق حفظه، وبقراءته في صلاتك حتى يثبته الله عز وجل في قلبك.
وهناك كثير من الناس يطلق عليه أنه يحفظ القرآن، فلما يُطلب منه أن يقرأ هذه الآيات فلا يعرف منها شيئاً، وحفظ القرآن لا يكون بالقوة، فإذا أردت مثلاً أن تحفظ سورة البقرة مثلاً في يوم واحد، فلا تستطيع، وهذا لا يمكن، فعليك إذا أردت الحق أن تبدأ من آخر المصحف من جزء عم، ومن السور القصيرة وتحفظ شيئاً فشيئاً إلى أن تتمرن على الحفظ وتصل إلى السور الكبيرة بعد ذلك، وأما أن تترك قصار السور والسهلة منها وتحاول حفظ السور الطويلة التي آياتها طويلة وأحكامها متشابهة، فلعله يكون صعباً عليك، لذلك فالعلم آية آية وحديث حديث.
ولا تمل ولا تيأس، وخاصة إنك قرأت كلما أعطاك الله عز وجل من الأجر، فعندما تقرأ القرآن وأنت حافظ له ومجيد للقراءة فلك درجة عند الله، وعندما تقرأ القرآن وهو صعب عليك وتتعتع فيه فلك درجة عند الله سبحانه وتعالى، وفي كلا الحالتين أنت مثاب، فلا تترك القرآن أبداً، ولكن حاول أن تتعلمه.
ونرى في حديث السيدة عائشة رضي الله عنها، الذي رواه البخاري ومسلم والذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة)، والماهر هو الذي يحفظ القرآن حفظاً جيداً، وحفظه للقرآن علماً وعملاً، فيحفظ القرآن ويعمل بما يحفظه من القرآن ويفهم معاني القرآن، وهذا من أعلى ما يكون، فهو مع السفرة الكرام البررة، والسفرة هم الملائكة، وهم سفراء الله عز وجل إلى الأرض، وقد نزلوا بالقرآن من عند الله عز وجل، والملائكة لا تخطئ في الذي تنزل من عند الله عز وجل، فكذلك الإنسان الذي يحفظ القرآن فإنه يقيمه حروفاً وحدوداً، ويعرف معانيه ويقرأه دائماً في صلاته وغيرها، وهذا مع السفرة الكرام الأبرار.
قال عليه الصلاة والسلام: (والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران) أي: أنك ما دمت تقرأ القرآن فلن تعدم خيراً أبداً، فعندما تقرأ القرآن وتتعتع فيه وتقرأ الكلمة وتعيدها مرة أخرى إلى أن تتقنها فلك على كل حرف عشر حسنات، ولك على هذه التعتعة والمشقة التي تقرأ بها القرآن لك فيها أجران، لذلك فالإنسان المؤمن يجب عليه أن يقرأ القرآن حتى ولو كان لا يجيد قراءته، ولكن لابد من التعلم، فالإنسان لا يركن للخمول والراحة التي هو فيها، فعلى الإنسان أن يحاول، وليبحث عمن يعلمه، ويحضر مجالس الذكر ومجالس العلم؛ لكيلا يستمر على ضعف في القراءة، ولا يمنعك من حضور مجالس الذكر الخجل وتقول: أنا أخجل من أن أقرأ وأخطئ ومن ثم يسخروا مني، فاعلم أن لك أجرين؛ لأنك أتعبت وذللت نفسك لطلب العلم، ولذلك فالإنسان الذي يصل إلى درجة العالم لا بد وأن يذل نفسه للعلماء حتى يتعلم منهم، ولذلك يقال: إن العلم ينال ببذل النفوس، فالإنسان يتواضع لمن يعلمه ويتعلم منه، فإذا قرأ القرآن وغلط فإنه يذهب لمن يعرفه كيف يقرأ القراءة الصحيحة.
وأما الإنسان الذي يستحيي فإنه يضيع منه العلم، فإن العلم يضيع من الإنسان بأمرين هما: الكبر والحياء، فإذا منعك الخجل فإنك لن تقرأ ما حييت.
والإنسان الذي يتكبر عن سؤال غيره بحجة أنه أفضل من غيره فلن يصل وحده أبداً، وإنما ينال العلم بالصبر على مجالسة أهل العلم حتى يصل الإنسان إلى ما يحبه الله سبحانه وتعالى.
وورد حديث عن أبي ذر أنه قال: (يا رسول الله! أوصني، فقال صلى الله عليه وسلم: عليك بتقوى الله فإنه رأس الأمر كله، قال: زدني يا رسول الله! فقال: عليك بتلاوة القرآن فإنه نور لك في الأرض وذخر لك في السماء).
فتلاوة القرآن نور لك في قلبك في طريقك وفي سبيلك وفي دعوتك إلى الله عز وجل، فهو الذي ينور الله عز وجل به بصرك وبصيرتك، ويفتح مداركك وحسك وقلبك بهذا القرآن العظيم، وهو ذخر لك، وأجر مدخر عند الله في السماء.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على حفظ كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وعلى العلم والعمل على الوجه الذي يرضى به عنا سبحانه وتعالى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.