[الترغيب في ترك أرض المعاصي والحث على ذلك]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الإمام المنذري: وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ قال: نعم، من يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلا بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة).
وفي رواية: (فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر فجعل من أهلها)، متفق عليه.
هذا الحديث صحيح رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وفيه دليل على سعة رحمة رب العالمين، فالله سبحانه عظيم، رحيم، تواب، كريم، فالإنسان الذي يتوب إليه يتوب عليه مهما عظم ذنبه، والشرك فما دونه إذا تاب منه العبد إلى الله فإن الله عز وجل يتوب عليه ويغفر له، وفي هذا الحديث أن رجلاً ممن كانوا قبلنا قتل تسعة وتسعين نفساً، وكان في قرية سوء وأهلها أهل معاصي ومنكرات، وهذا الأمر منتشر بينهم، فأراد أن يتوب إلى الله فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب، والراهب هو العابد، ولا يشترط أن يكون على علم، وليس من حق العابد أن يفتي حتى يكون عالماً، فهو مجرد إنسان يصلي ويصوم ويقوم الليل ويتعبد لله، فليس من حقه أن يفتي في دين الله، وإنما الذي يفتي في الدين هم أهل العلم والفقه.
فلما سأل الراهب وقال له: قتلت تسعة وتسعين نفساً، هل لي من توبة؟ قال: لا، فحجر عنه التوبة، فقتله فكمل به المائة، ثم مع ذلك أراد أن يتوب وذهب يسأل هل له من توبة؟ فدلوه على عالم من العلماء فذهب إلى هذا العالم فقال له: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، من يحول بينه وبين التوبة؟ هذا هو العالم الذي يعرف رحمة رب العالمين سبحانه، وأن الله لا يتعاظمه ذنب، فالإنسان لا ييئس من رحمة الله: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:٨٧].
فالإنسان الذي عصى الله عز وجل عليه أن يعلم أن الله عز وجل قريب، وأنه تواب رحيم فليبادر إلى التوبة، وإذا لم يبادر إلى التوبة فإن الله شديد العقاب، فالله غفور رحيم لمن تاب وعمل صالحاً، وشديد العقاب على من لم يتب، فلذلك المؤمن يسرع ويبادر إلى التوبة لأنه لا يدري لعله يأتيه الموت وهو على الذنب الذي سوَّف في التوبة منه.
فهذا الرجل سأل العالم، فأخبره العالم أن له توبة، إذا تاب إلى الله.
ثم أرشده العالم وقال له: أنت في أرض سوء أي: أهل هذه الأرض أهل منكرات وفواحش، ولو بقيت فيها فستفعل كفعلهم، فمن شروط توبتك أن تخرج، وأن تفارق أهل هذه القرية إلى القرية الفلانية، فإن فيها أناساً صالحين فاذهب فاعبد الله معهم.
والإنسان الذي يتوب إلى الله، وكان له رفقة سوء: من لزوم توبته أن يفارق هؤلاء، فلا يبقى مع رفقة سيئة فيهم سفالة وبعد عن دين رب العالمين، ثم يقول: تبت وهو ما زال مصاحباً لهم؛ لأنهم سيدعونه إلى الضلالة ويغوونه مرة ثانية فيردونه إلى ما كان عليه قبل ذلك، فمن شروط التوبة مفارقة أهل المعاصي وعدم ملازمتهم.
فالرجل خرج من قريته إلى القرية الثانية حتى يعبد الله، وتاب إلى الله، وفي الطريق مات، وهنا نتذكر أنه يجب على الإنسان أن يبادر إلى التوبة، فلو أن هذا الرجل سوف يوماً آخر أو يومين ومكث في قرية السوء لكان من أهلها، ولكن الله عز وجل رحمته عظيمة واسعة.
لقد مات الرجل بين القريتين فجاءت ملائكة العذاب وملائكة الرحمة، فقالت ملائكة الرحمة: تاب، وقالت ملائكة العذاب: لم يعمل خيراً قط، فاختصمت ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأنزل الله عز وجل ملكاً على صورة آدمي يحكم بين الفريقين.
فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أدنى فهو من أهلها، أي: قيسوا ما بينه وبين قرية السوء، وما بينه وبين القرية الطيبة، إذا كان أقرب إلى أرض أهل المعاصي فهو منهم فاقبضوه معهم واجعلوه من أهل النار، وإذا كان أقرب إلى القرية الأخرى فاجعلوه مع أهلها.
فقاسوا ما بين القريتين وكان الرجل في نصف الطريق، وإذا بالله سبحانه وتعالى يوحي إلى الأرض، وفي رواية: (فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي، وإلى هذه أن تقربي وقال: قيسوا بينهما فوجدوه أقرب إلى هذه بشبر).
إن رحمة رب العالمين واسعة عظيمة فهو الذي ألهمه التوبة، وهو الذي دله على أن يسأل وهو الذي جعله يخرج من هذه الأرض، وهو الذي أمر الأرض أن تزيد من ها هنا وأن تنقص من ها هنا، فقبضته ملائكة الرحمة فكان من أهل رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى.
وفي رواية أخرى قال: (لما أتاه ملك الموت، نأى بصدره نحوها)، يعني: كان في نصف الطريق تماماً فأوحى الله إلى الأرض أن تباعدي من هاهنا، وتقربي من هاهنا، وجعله ينأى بصدره فكان أقرب بشبر واحد إلى هذه فكان من أهلها، وهذه رحمة من الله رب العالمين فإنه من تاب تاب الله عليه مهما عمل من معاص وذنوب، ومن سوف فلا يدري لعله يدركه الموت وهو على عمله السيئ فيكون من أهل النار.
وروى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني).
قال صلى الله عليه وسلم: (والله لللَّه أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته في الفلاة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ومن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإذا أقبل إلي يمشي أقبلت إليه أهرول).
فأنت ابدأ فإذا رأى الله عز وجل منك أنك مقبل عليه أقبل عليك أكثر وأكثر، فإذا أقبلت وسارعت بالعبادة والطاعة أقبل عليك مسارعاً أكثر منك بالثواب والفضل.
وفي الحديث: (إن الله لا يمل حتى تملوا)، فالإنسان طالما أنه مقبل على الله فإن الله يقبل عليه ويعطيه، حتى إذا مل العبد وترك العبادة تركه الله ولم يعطه ثواباً.
فهنا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يفرح بتوبة العبد، إذا تاب فرحاً عظيماً، وفي رواية لـ مسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب).
ثم ضرب لنا مثلاً: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:٦٠]، والمثل للتقريب للأذهان والأفهام، يقول: (والله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت عنه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها).
فهذا رجل ركب على راحلته عليها الطعام والشراب وذهب إلى أرض فلاة صحراء واسعة فلما كان فيها نزل من على الناقة فتاهت الناقة وضاعت منه، فأيس منها، لا مركب ولا طعام ولا شراب، فلن ينتظر إلا الموت، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته -ونام تحت الشجرة حتى يأتيه الموت- قال النبي صلى الله عليه وسلم: فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها).
فأي فرحة يكون فيها هذا الإنسان؟ لقد رأى الناقة أمامه فأمسك بخطامها حتى لا تضيع مرة ثانية، ومن فرحته قال -يشكر رب العالمين سبحانه- (اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح).
ولله عز وجل المثل الأعلى: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من هذا بناقته)، ومما جاء عن النبي صلوات الله وسلامه عليه ما رواه أحمد وغيره عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته ثم عمل حسنة فانفكت حلقه، ثم عمل حسنة فانفكت أخرى، حتى يخرج إلى الأرض).
والأصل أن الدرع تقي الإنسان من الأعداء، لكنها لا تقيه إلا إذا كانت واسعة يستطيع أن يحركها ويتحرك بها، أما إذا كانت ضيقة فإن الأعداء سينالون منه.
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الإنسان الذي يعمل السيئات كهذا الذي يلبس الدرع الضيقة، فتضيق عليه حاله وبدنه ولا يقدر أن يتحرك منها.
لكنه لما عمل الحسنات اتسعت الدرع عليه فتحرك ووقى نفسه من عذاب رب العالمين سبحانه.
والإنسان لا يخلوا من سيئات يفعلها، فالنبي صلى الله عليه وسلم يأمره: أن يعمل حسنات.
وروى الطبراني من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحسن فيما بقي غفر له ما مضى).
أي: إذا أساء الإنسان ولا يدري كم بقي له حتى يلقى الله سبحانه وتعالى فأحسن فيما بقي غفر الله له ما سبق، (ومن أساء فيما بقي قال: أخذ بما مضى وما بقي)، أي: أخذ بالاثنين، لذلك على الإنسان أن يحسن العمل لأنه لا يدري متى يموت فلعل الباقي أنفاس يسيرة قليلة، فالمحسن: هو الذي يكسب المكسب العظيم بأن يغفر له جميع السيئات الماضية.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.