للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

شرح حديث: (رحم الله عبداً سمحاً إذا باع)

جاء عن جابر رضي الله عنه ومثله عن عثمان وعن عبد الله بن مسعود، ولفظ حديث جابر: (رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى)، والسماحة هي السهولة، فالإنسان عندما يسمح بماله، أي: يعطي ويبذل ماله ويسمح، فيكون سهلاً في عطائه، فقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أو أخبره وكلا الأمرين حسن فإن دعا فدعوته مستجابة، أو أخبر عن حاله فهذا من المؤكد أن الله سبحانه قد رحمه.

وصفة هذا العبد السماحة في البيع فهو يبيع بسماحة وبطيب نفس، ويبذل ما عنده، ويعطي ولا يماري ولا يجاري ولا يغش ولا يخدع، وفيه سماحة في بيعه وعطائه فليس عنده تعنت، فإذا وجد المحتاج الذي لا يقدر على دفع المال فإنه يعطيه ويتسامح معه بطيب نفس وبطيب خلق، فرحم الله عبداً سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى، فيشتري ولا يبخس السلعة قدرها ولا يجادل كثيراً، ولا يخاصم في ذلك، ولا يرفع صوته ولكن فيه سماحة في شرائه، وعلى قدر ما يكون الإنسان كذلك على قدر ما تكون المعاملة بينه وبين الله سبحانه على ذلك.

فلا تظن أبداً أن إنساناً يكون سمحاً في العطاء وأن الله يضيق عليه في الرزق فهذا مستحيل، ولا يكون أبداً، والجزاء من جنس العمل، فالإنسان الذي يشح ويبخل فهذا يضيق الله تبارك وتعالى عليه، حتى وإن كان رزقه أمام الناس واسعاً لكن تجده خائفاً على المال مستشعراً بالفقر وبأن المال سيضيع منه.

فصاحب البذل وصاحب السماحة تجد الله سبحانه وتعالى يوسع عليه في الرزق حتى وإن كان رزقه ضيقاً ولكنه يعطيه في قلبه غنى يشعر من خلاله أنه غني.

فإذا اشترى الشيء دفع فيه ثمن ما يماثله فلا يكثر من الجدال، ولكن ليس المعنى أن يُخدع في الشراء فإنه إذا خدع مرة لن يخدع كل مرة، ولكن المقصد أن يعطي الثمن الذي تستحقه هذه السلع دون بخس ودون زيادة، وعلى الإنسان ألا يتعود على كثرة الجدل وشراسة الخلق مع البائع، وهنا الدِّين يعلمنا اليسر والسهولة والسماحة في البيع والشراء، قال: (سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى).

واقتضى أي: طلب القضاء، فمن حق المؤمن أن يطلب ماله عند الناس ولكن إذا طلب فليكن طلبه بسماحة وبسهولة، فإذا وجد الإنسان الضعيف الفقير يتسامح معه، فإذا كان معه مال دفعه وإلا صر عليه قليلاً، فالصبر على المال أجره عجيب وعظيم.

فلو أن لك عندي مالاً ووعدتني بأن تدفع لي وترجع مالي يوم كذا بعد شهر مثلاً، فجئت بعد شهر أطالبه بالدين الذي لديه فإن أعطاني كان من الأجر كأني تصدقت بنصف مالي، جزاء أني دينت الرجل، فإذا سلفت إنساناً ألف جنيه مثلاً ودفع لك المال في وقته فأخذت الألف فكأنك تصدقت بخمسمائة جنيه جزاء دينك للمستدين.

ولو فرضنا أنه جاء السداد المتفق عليه، ولا يوجد معه مال يعطيك، فصبرت عليه فلم تأخذ مالك، ولو أن تاجراً يحسبها سيجد أن المال لو استثمره وكان ألف جنيه مثلاً فسيكون له من الربح مقدار مائة جنيه مثلاً، ولكن الله يعطيك جزاء صبرك على دين الرجل أكثر من ذلك بكثير، فيكتب لك في ميزان حسناتك كأنك تصدقت في كل يوم صبرت عليه بمثل هذا الربح، فلو صبرت عليه عشرين يوماً لكان لك من الأجر أجر صدقة ألفين جنيه.

وهذا الذي يصبر عشرين يوماً فكيف بمن ينتظر سنة أو سنتين لا شك أنه سيحصل على أجر كبير، وقد صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وهذا الذي يجعل الإنسان المؤمن في راحة إذا لم يحصل على ماله المستدان، فإذا دفع لك بعد عشرين سنة المال فقد كسبت هذا الأجر كله من الله سبحانه، وليس معنى ذلك أن الإنسان إذا ما طله آخر ليس من حقه أن يرفع عليه دعوى في المحكمة ويحاكمه، بل هذا من حقه، ولكن ينظر هذا الإنسان هل هو معسر أم موسر؟ فإذا كان موسراً ومماطلاً فيستحق أن يعاقب.

فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته) والمطل من المماطلة، وهذا مثل كثير من التجار تراه يستلف من هذا ويستلف من هذا ومعه مال، ولكنه يريد أن يوفر ماله في التجارة ويريد أن يزيد رأس ماله من مال الناس، ولكنه يؤخر أموال الناس، وكل ذلك من أجل أن ويحصل على أرباح ويكسب منها، فإذا أخذ إنسان منك ديناً ولديه القدرة على سداده فمن حقك أن تقاضيه، وهذا مستحق بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته) ويحل عرضه يعني يقال عنه: إنه ظالم وأنه يأكل أموال الناس، ويحل عقوبته أي: بأن يقاضيه عند الحاكم، ويستحق العقوبة، ولو أنه صبر فإن ربنا يقول: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:٤٣].

أما المعسر من الأولى أن تصبر عليه وتؤجر من الله سبحانه لعل الله سبحانه يرزقك خيراً من ذلك ويرزقه فيرد عليك مالك.

وفي رواية لهذا الحديث عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أدخل الله عز وجل رجلاً كان سهلاً مشترياً وبائعاً وقاضياً ومقتضياً الجنة) فرحمه الله سبحانه وجزاه الله الجنة على ذلك؛ لأن فيه يسر وسهولة ولين، إذا اشترى السلعة أو باعها تجده سهلاً، وسهل إذا كان قاضياً، أي: يقضي بالحق، وأمين في الأمانات والودائع وحقوق للناس، فإذا جاء وقتها ذهب بها إلى أصحابها {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:٥٨]، قال: ومقتضياً يعني مطالباً بحقه.