شرح حديث: (بدأ الإسلام غريباً)
وجاء في الحديث الآخر: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء) بدأ الإسلام برسولنا صلوات الله وسلامه عليه وهو رجل واحد فدعا إلى الله فاستغرب الناس منه ذلك، وقاتلوه وطردوه، وأرادوا أن يوثقوه عليه الصلاة والسلام؛ حتى نصر الله عز وجل هذا الدين.
فأوذي أذىً شديداً وكان يقول: (لقد كنت أؤذى وما يؤذى أحد) أي: يؤذيني الناس ولا أحد يؤذى سواي عليه الصلاة والسلام.
فبدأ الإسلام غريباً وسيرجع مرة أخرى غريباً فيكثر أهل المعاصي والفجور وأهل البعد عن دين الله ويصبح كلامهم هو الذي يصدق عند الناس.
أما أهل الدين فيعتقد الناس فيهم كما يزعمون أهل تخلف ويدعون عليهم.
وبدأ الإسلام غريباً وسيرجع غريباً بين أهله المسلمين، فيرون أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم بدعة من البدع، فهم على مثل ما كان عليه آباؤهم في الضلالات والبدع فلا يعرفون الله سبحانه، ففي هذا الزمن الذي يتمسك بدينه كالذي يقبض على الجمر، فيعاني المتمسكون بدينهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يرغبهم في الإكثار من التمسك والتشدد في ذلك؛ فإنها أيام الصبر، فاصبروا على دينكم، وعلى أذى الخلق، وعلى طاعة الله سبحانه وتعالى، وعلى قضائه وقدره.
والإنسان يجد الفتن في بيته وفي طريقه، وفي ولده، وفي كل مكان، ففتنة الرجل في أهله وماله تكفرها عبادات العبد من صلاة وصيام وأمر بمعروف ونهي عن منكر ونحو ذلك.
ويرغبك النبي صلى الله عليه وسلم في التمسك بالدين مهما عاداك الأقربون والأبعدون، فقال: (الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله).
فمن تمسك في زمن الفتن الذي يدعى فيه المؤمنون إلى ترك دينهم فله أجر خمسين رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعملون هذا العمل.
وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم صبروا وكانوا أقوى الناس إيماناً، والله عز وجل جعلهم السابقين ولهم الدرجات العالية والمنزلة العظيمة عنده سبحانه وتعالى، ولكن الذين يأتون من بعدهم يجدون أهل الضلال كثيرين فيغرونهم، ويضلونهم، ويدعونهم إلى البعد عن الله عز وجل، فلذلك الذي يصبر على هذا البلاء كله ولا ينظر إلى ما حرم الله، ولا يتمنى معاصي الله سبحانه وتعالى فيصبر على الطاعة، ويصبر عن المعصية، ويصبر على القضاء والقدر، فالله يعطيه أجر خمسين رجلاً من أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ففيه ترغيب عظيم جداً بالتمسك بحسن الخلق وبدين رب العالمين سبحانه، وإياك أن تفتن فالفتن كثيرة، ولذلك لما خلق الله عز وجل الجنة والنار وأمر جبريل أن يذهب فينظر إليهما فقال عن الجنة: ما يسمع بها أحد إلا ويدخلها.
وقال عن النار: من يسمع بها يخاف منها فلا يدخلها مما فيها من عذاب ولهيب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكارة وحفت النار بالشهوات).
وقال أيضاً: (وقيل لجبريل: اذهب فانظر، فنظر إلى الجنة فقال: خشيت أن لا يدخلها أحد - أي: من كثرة المكاره التي حولها فكل الخلق يبتعدون عنها خوفاً من المكاره فلا يدخلونها- ونظر إلى النار فقال: خشيت أن يدخلوها كلهم)، لما حول النار من الفتن ومن الشهوات التي حفت بها.
فلذلك المؤمن يصبر كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران:٢٠٠] وهنا توكيد من كلام رب العالمين سبحانه بالصبر والمصابرة والمجاهدة والمدافعة والمرابطة في سبيل الله حتى يثبت على ذلك، وحتى يؤجر هذا الأجر العظيم أجر خمسين رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى الطبراني من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من ورائكم زمان الصبر للمتمسك فيه أجر خمسين شهيداً منكم) أي: للمتمسك بدينه أجر خمسين شهيداً، وهذا شيء عظيم ما تحلم به أبداً.
فالمؤمن يدعو ربه أن يرزقه شهادة كشهادة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن يصل إليها بأن يتمسك بالدين، وأن يقبض عليه وأن يعاني في سبيل الله سبحانه وتعالى ويصبر على ذلك، مهما آذاه الخلق، ومهما تعرض له من فتن فيصبر ويتمسك، حتى يكون له أجر خمسين شهيداً أو رجلاً من أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ومن الأحاديث: ما رواه مسلم عن معقل بن يسار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عبادة في الهرج كهجرة إلي) والهرج هو زمن الفتن الذي يقتل الناس بعضهم بعضاً على أتفه الأسباب أو بغير أسباب، ويفعلون المعاصي، فيتهارجون كتهارج الحمر ويقعون في الزنا والعياذ بالله، ويقعون في الكبائر والصغائر من الذنوب، كالقتل وأكل الأموال واغتصابها، ويقعون في كل شيء فيه هرج واختلاط.
فالذي يعبد ربه في مثل هذا الزمان الذي فيه الهرج ولا يمن بعبادته، ولا يرى لنفسه فضلاً على أحد من خلق الله سبحانه وتعالى، فله أجر هجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فالمؤمن إنسان متواضع، يعبد الله سبحانه ويخاف أن لا يقبل منه ذلك، وفرق بين من يعبده ويظن أنه حصل كل شيء بذلك وأنه أفضل من غيره فيأخذه العجب والغرور فقد يحبط عمله بسبب ذلك، وبين من يعمل ويعبد ربه ويرجوه ويدعوه كما دعاه أبو الأنبياء: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:١٢٧] فهذا الذي له الأجر العظيم جداً الذي لا يحلم به إنسان وهو كأجر الهجرة.
والهجرة قد مضت لأهلها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح) فالمؤمن قد ينال أجر الهجرة وأجر خمسين شهيداً، أو أجر خمسين رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
بالعبادة في الزمن الصعب الشديد الذي لا يجد فيه من يعينه.
والعبادة ليست عبادة يوم وليلة أو عبادة شهر رمضان وانتهى الأمر على ذلك، وإنما عبادة يداوم عليها المؤمن كإنسان يمسك جمرة بيده ولا يلقيها، فتحرقه وتؤذيه وهو ممسك بها حتى يلقى ربه سبحانه.
ودين الله لا يؤذي أحداً بل كل دين الله خير، ولكن المقصد أن المتمسك بالدين يؤذيه الخلق، فيفتنونه عن دينه، ويلومونه على ذلك، ويدعونه إلى الباطل، وهو صلب متمسك بدين الله سبحانه وتعالى، فهذا الذي له هذا الأجر الذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.