[شرح حديث أبي ذر رضي الله عنه في التخفف من الدنيا]
عن أبي ذر رضي الله عنه، يقول الراوي عنه وهو أبو أسماء: أنه دخل على أبي ذر وهو بالربذة.
وأبو ذر رضي الله عنه كان من أصدق الناس لهجة رضي الله عنه، وكان يشبه بالمسيح عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
وقد كان ينصحه النبي صلى الله عليه وسلم ويقول له: (يا أبا ذر، إني أراك ضعيفاً، فلا تقضي بين الناس، ولا تولين مال يتيم)، فينصحه النبي صلى الله عليه وسلم: بأني أحب لك ما أحب لنفسي، فأنت ضعيف عن هذا، ولا تقدر على القضاء، ولا على تولي أموال الأيتام، فلا تفعل ذلك.
وقد كان أبو ذر رضي الله عنه صادق اللهجة، وكان شديداً في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، ولعل صدق لهجته وشدته وحدته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جعل الناس ينفرون منه، ويشكونه لـ عثمان رضي الله تبارك وتعالى عنه، وعثمان بن عفان رضي الله عنه هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وكان رفيقاً رقيقاً لطيفاً حنوناً، رضي الله عنه، فلا يحب أن أبا ذر ينفر الناس.
فقال له: لو اعتزلت.
يعني: طالما أنك شديد في أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، وإنا نختلف معك في الفتوى التي تقولها؛ لأن أبا ذر كان يرى أن من معه فائض من المال فيجب عليه أن يوزعه على الناس الفقراء والمحتاجين.
وكان غيره من الصحابة لا يرون ما يرى، وهذا الذي رآه كان قد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام.
ولكن بعد ذلك أخبروا عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الإنسان الذي يؤدي الزكاة ثم فاض عنده مال فإن هذا ليس بكنز، فإذا أدي زكاته فليس بكنز.
ولم يسمع أبو ذر ذلك، فظل مصراً على ما كان في الماضي، من أن الإنسان إذا ادخر مالاً فحتى ولو أدى الزكاة منه فهو كنز، ولا بد أن يخرجه قبل أن يحاسب عليه يوم القيامة.
فقال له عثمان: أنت مخالف لنا في ذلك فلو اعتزلتنا، فبدلاً من أن تفتي أنت بشيء ونحن بخلافه فيحصل خلاف بين الناس، ونفرق الناس فأولى لك أن تعتزل.
وفعلاً اعتزل أبو ذر رضي الله عنه، وذهب إلى الربذة، واعتزل هنالك، رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وكانت معه امرأته، وهي كما جاء في هذا الأثر أنها كانت امرأة سوداء مسغبة، كأنها ليست جميلة، يعني: امرأة سوداء ليس عليها أثر المحاسن ولا الخلوق.
يقول أبو أسماء: قال أبو ذر: ألا تنظرون ما تأمرني به هذه السويداء؟ يعني: امرأته؛ لأن زوجته تطلب منه أن يخرج إلى الخليفة، ويرجع من عنده بمال، فيقول: تأمرني أن آتي العراق، فإذا أتيت العراق مالوا علي بدنياهم؛ لأنها أرض فيها خير كثير، وفيها أموال كثيرة، وسيقولون: هذا صحابي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيغدقون علي من أموالهم.
فقال: إذا أتيت العراق مالوا علي بدنياهم، وإن خليلي صلى الله عليه وسلم عهد إلي أن دون جسر جهنم طريقاً ذا دحض ومزلة.
أي: إن جسر جهنم عندما تعبره فهو طريق طويل، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصراط: (أنه أحد من الموسى، وأدق من الشعرة، وأنه فوق ظهر جهنم، ويؤمر الخلق أن يمروا فوق هذا الجسر، وعن يمينه وشماله خطاطيف تخطف الناس، وتوقعهم في النار) والعياذ بالله، وهذا الجسر لا يجوزه إلا المتخففون، الذين لم يأخذوا من الدنيا شيئاً، والذين لم يذنبوا، ولم يقعوا في المعاصي وفي الذنوب، فيمرون كطرف العين، أو كالبرق فوق هذا الجسر، أو فوق هذا الصراط.
يقول أبو ذر رضي الله عنه: وإنا إن نأتي عليه وفي أحمالنا اقتدار واضطمار أحرى أن ننجو من أن نأتي عليه ونحن مواقير.
أي: إذا مررنا على الجسر وفي أحمالنا اقتدار، وهي: من قدر عليه رزقه، أي: خفف، فيقول: إذا كانت أحمالنا خفيفة فيها اقتدار، وفيها قلة، وفيها اضطمار، من الفرس المضمر الذي من كثرة العدو والجري يخف وزنه، فيقصد أن أحمالنا تكون خفيفة فيسهل علينا المرور على هذا الجسر.
وقوله: (أحرى أن ننجو من أن نأتي عليه ونحن مواقير)، أي: موقرون أثقالاً، وآخذين أحمالاً وأثقالاً، فمن الصعب أن نجوزه.