[شرح أثر ابن مسعود في الأمانة]
هذه الأحاديث ذكرها الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب.
ومنها هذا الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً عليه.
وقد ذكر فيه الأمانة.
والأمانة من أعظم ما يحمل الإنسان، ويسأل عنه يوم القيامة.
فقد قال: القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة.
وجاء هذا المعنى في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما سأله رجل: أرأيت إن قاتلت في سبيل الله صابراً، أو: قتلت صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، أيكفر عني ذلك، -يعني: الذنوب-؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم، فلما أدبر الرجل ناداه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إلا الدين، أخبرني بذلك جبريل آنفاً).
فالإنسان لو استشهد في سبيل الله مقبلاً غير مدبر صابراً محتسباً، وقتل في سبيل الله فإن هذا القتل يكفر عنه كل الذنوب التي وقع فيها، إلا الدين، أي: إلا أمانات الناس.
فإن كان عنده دين للناس، فإن هذا لا يكفر عنه، والناس تطالبه بحقوقها يوم القيامة.
فيؤخذ لهم من هذا الإنسان حتى ولو كان شهيداً.
وهنا يقول ابن مسعود: (القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة.
يؤتى بالعبد يوم القيامة وقد قتل في سبيل الله، فيقال: أد أمانتك).
وهذا له حكم المرفوع؛ لأن ابن مسعود لم ير يوم القيامة، ولا يعلم شيئاً من الغيب، إلا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بذلك.
فقال: (فيقال: أد أمانتك) أي: أن الإنسان عندما يأتي يوم القيامة يقول له الله عز وجل: عليك أمانة، وعليك وديعة لفلان، وعليك دين لفلان، وعليك كذا.
فأد هذه الأمانة.
قال: (فيقول: أي رب، كيف وقد ذهبت الدنيا؟)، أي: من أين آت بها؟! وهي لا توجد الآن؛ لأن الدنيا ذهبت.
قال: (فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية)، وهذا من أسماء النار والعياذ بالله.
سميت بذلك لأنها تهوي بصاحبها.
وقد جاء أن الحجر يرمى به من رأس النار فيهوي إلى قاعها لا يصل إلا بعد سبعين خريفاً.
فقعر جهنم اسمه الهاوية، والعياذ بالله.
قال: (فيقال للملائكة: اذهبوا بهذا الرجل إلى الهاوية، فينطلقون به إلى الهاوية، وتمثل له أمانته، كهيئتها يوم دفعت إليه)، أي: يرى الأمانة أمامه في النار.
فيقال له: هذه الأمانة التي أخذتها من الناس.
فهو قد أخذ من الناس في الدنيا ودائع وعواري، وأخذ منهم أموالاً على هيئة الدين.
فتكون أمانة عنده، ثم لم يردها إلى أصحابها، فمن هذه حاله في الدنيا، فإنه يوم القيامة يذهب به إلى النار، ويقال له: هذه أمانتك داخل النار، فادخل واحضر هذه الأمانة.
فينزل وراء الأمانة، ويظن أنه سيمسكها، فينزل وراءها حتى يمسكها، ويضعها على كتفيه، ويصعد من أجل أن يخرج من النار.
قال: (فينطلق به إلى الهاوية، وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه، فيراها فيعرفها، فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على منكبيه، حتى إذا نظر -ظن- أنه خارج)، أي: ظن أنه سيخرج من النار، تفلت الأمانة منه وتسقط في النار ثانية، فينزل وراءها ليحضرها، وهكذا.
قال: (حتى إذا نظر -ظن- أنه خارج زلت عن منكبيه فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين.
ثم قال: الصلاة أمانة).
فالإنسان يسأل يوم القيامة عن الصلاة التي اؤتمن عليها.
فإذا قال: كيف أصلي الآن؟ يقولون: اذهب واحضرها من النار، فيذهب إلى النار، ويهوي فيها وراءها أبد الآبدين؛ لأنه ضيع الصلاة وهي أمانة رب العالمين.
قال: (والوضوء أمانة، والوزن أمانة).
فالإنسان عندما يزن ويبيع للناس فهذا أمانة.
قال: (والكيل أمانة وأشياء عددها.
وأشد ذلك الودائع).
فعندما يقول لك إنسان: ضع لي هذه الحاجة عندك.
فهذه وديعة.
وكم من الناس يؤتمن على شيء فيأخذه ويقول: لم أر شيئاً؟ ولم آخذ شيئاً؟ وكم من إنسان يستعير الشيء ويتلف عليه ويقول: لقد ضاع، فماذا أعمل؟ وينتهي الأمر.
فهذه أمانات لابد وأن ترد إلى أصحابها، فإن لم يردها صاحبها في الدنيا فهذا حاله يوم القيامة والعياذ بالله.
قال زاذان راوي الحديث عن ابن مسعود: فأتيت البراء بن عازب فقلت: ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود؟ قال: كذا وكذا.
قال: صدق، أما سمعت الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:٥٨].
فإذا لم يؤد الإنسان أمانته في الدنيا فُعل به ذلك في النار، والعياذ بالله.