وكما وضح في حديث آخر:(أتدرون من المفلس؟ قالوا: الذي لا درهم له ولا دينار) فأخبر أن هذا ليس هو المفلس، وإن كان حقيقة هو المفلس في الدنيا، لكن المفلس فلساً حقيقياً عند الله سبحانه وتعالى هو:(المفلس: هو الذي يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، فيأتي وقد شتم هذا، وسب هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، فطرح في النار) فهذا هو المفلس إفلاساً حقيقياً، لكن الذي ليس معه فلوس ماذا سيحصل له؟ في آخر الأمر سيستوي هو ومن معه مال، سينزلون في القبر سواء، وسيحاسبون في القبر، ولكن يوم القيامة هناك فرق بين من يأتي ومعه حسنات كثيرة، فيعمل خيراً ويصوم ويصلي ويزكي ويتصدق، ولكنه يشتم الناس ويقع في أعراضهم، ويسفك الدماء، ويأكل المال الحرام ولا يهتم، فيأتي يوم القيامة فتسلب عنه هذه الحسنات أمام عينيه فيصير مفلساً، بل ويأخذ من سيئات الآخرين فتوضع عليه بسبب ظلمه لهم ولا حول ولا قوة إلا بالله! ووضح النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر معنى الصرعة فقال:(إنما الصرعة الذي يملك نفسه عند الغضب) فليس المصارع البطل، وإن كان هذا يسمى صرعة، أي: أنه يصرع غيره، ولكن الصرعة حقيقة هو الذي يغلب نفسه وهواه وشيطانه عند الغضب، فيمسك نفسه عند الغضب، ويتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ويكظم غيظه وغضبه ابتغاء وجه الله سبحانه.
وقال صلى الله عليه وسلم:(أتدرون من الرقوب؟ قالوا: الرقوب: المرأة التي لم تنجب، فقال: لا، الرقوب: التي لم تقدم ولداً) يعني: التي لم يمت لها ولد صغير، فالتي مات لها ولد صغير لها أجر عظيم جداً عند الله عز وجل، فإن المفاهيم عند الناس لها معنى، وفي الشريعة لها معنى أكبر من هذا الذي ينظر إليه الناس.
وحديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله في الحديث نفسه فقال:(إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب، ثم سألني عن رجل من قريش فقال: أتعرف فلاناً من قريش؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله، قال: فكيف تراه؟ قال: قلت: إذا سأل أعطي، وإذا حضر أدخل، فقال: ثم سألني عن رجل من أهل الصفة: أتعرف فلاناً؟ فقال: قلت: لا والله ما أعرفه يا رسول الله! قال: فما زال يحليه وينعته حتى عرفته) يعني: النبي صلى الله عليه وسلم يعرف هذا الإنسان الفقير الذي لا يعرفه الكثير، فعرفه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال:(فما زال يحليه) يعني: يذكر أن صفته كذا ويلبس كذا ويقعد في المكان الفلاني، حتى عرفه أبو ذر، فهو رجل مجهول بين الناس، ولكن يعرفه الله، ويعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعرفه ملائكة الله (قال: قد عرفته يا رسول الله قال: فكيف تراه؟ قال: هو رجل مسكين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فهو خير من طلاع الأرض من الآخر) يعني: هذا الفقير من فقراء المساكين من أهل الصفة خير من طلاع -يعني: ملء الأرض- من مثل هذا القرشي الذي أعجبك.
يقول أبو ذر رضي الله عنه:(أفلا يعطي من بعض ما يعطى الآخر؟)، إذا كان هذا عند الله له المنزلة الكبيرة هذه فلماذا لا يعطيه الله قليلاً مما أعطى الآخر من المال الكثير؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(إذا أعطي خيراً فهو أهله) فلو أن الله أعطاه خيراً من مال وغيره فهو أهل ويستحق ذلك، (وإذا صرف عنه فقد أعطي حسنة) يعني: فإذا صرف الله عنه هذا المال وصبر على ذلك فهذا أفضل له عند الله سبحانه وتعالى.