[أنواع الحسد الجائز]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
روى الإمام البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثلما أوتي فلان فعملت مثلما يعمل، ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثلما أوتي فلان فعملت مثلما يعمل) وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: رب إني منعته الطعام والشراب بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (أن أسيد بن حضير بينما هو في ليلة يقرأ في مربده إذ جالت فرسه، فقرأ، ثم جالت أخرى، فقرأ ثم جالت أيضاً، فقال أسيد: فخشيت أن تطأ يحيى -يعني: ابنه- فقمت إليها فإذا مثل الظلة فوق رأسي فيها أمثال السرج عرجت في الجو حتى لا أراها، قال: فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! بينما أنا البارحة في جوف الليل أقرأ في مربدي إذ جالت فرسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ ابن حضير قال: فقرأت ثم جالت أيضاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ ابن حضير، قال: فقرأت، ثم جالت أيضاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ ابن حضير قال: فانصرفت وكان يحيى قريباً منها خشيت أن تطأه، فرأيت مثل الظلة فيها أمثال السرج عرجت في الجو حتى ما أراها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الملائكة كانت تستمع لك، ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستر منهم) متفق عليه.
وهذه أحاديث أخرى يذكرها الإمام المنذري رحمه الله في الترغيب في قراءة القرآن في الصلاة وغيرها.
فمن الأحاديث حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا على اثنتين) وجاء في حديث أبي هريرة وفيه: (لا حسد إلا في اثنتين).
والحسد هنا بمعنى: الغبطة حيث يغتبط الإنسان ويغبط غيره، ويغبطه أي: يتمنى أن يكون لنفسه مثلما لهذا الإنسان.
فهذا هو المقصود من الحسد في هذا الحديث، وإلا فالحسد مذموم شرعاً، وهو حرام، وربنا سبحانه وتعالى أمرنا أن نتعوذ من شر حاسد إذا حسد.
أما الحسد فأصله تمني زوال نعمة الغير، كأن يرى في يد غيره نعمة فيتمنى أن تزول هذه النعمة من الغير، خاصة إذا كان هو محروم منها، فهو لا يحب لغيره أن يؤتى بشيء ليس عنده، أو يتمنى أن تزول من يد هذا الإنسان وتصير إلى يده هو، فهذا هو الحسد الذي نهينا عنه شرعاً.
أما أن تغبط ما مع الإنسان وتتمنى أن يكون معك مثل الذي معه فلا مانع من ذلك، وخاصة في أمر الخير.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لنا: لا حسد أي: لا غبطة إلا في أمرين اثنين، قال: (إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثلما أوتي فلان).
فهنا يجوز للإنسان أن يتمنى أن يكون حافظاً للقرآن مثل فلان الذي يحفظه، ويتمنى من الخير لنفسه مثل هذا الخير الذي عند فلان فهذا الأمر الأول.
الأمر الثاني: أن يكون إنسان له مال ينفقه في الحق، وفي سبيل الله سبحانه، ينفقه على الفقراء، والمساكين، وذوي القربى، واليتامى، وينفق في كل وجه من وجوه الخير، فهو لا يكتنز المال وإنما ينفقه.
إذاً: معنى كلمة (فهو يهلكه في الحق) وفي الحديث الآخر: (فسلطه على هلكته) يعني: سلطه الله على هذا المال بالإنفاق ولا يمكن لإنسان أن ينفق لله عز وجل ويحرمه الله سبحانه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نقص مال من صدقة) فالإنسان ينفق والله عز وجل يزيد من خيره وبركاته وفضله سبحانه.
فيرى إنسان هذا الذي ينفق في سبيل الله فيتمنى أن يكون لديه مال مثل هذا الإنسان فينفق كنفقته.
فهذا حسد جائز، أو هذه رخصة جائزة، لكن أن يغبط الإنسان على شيء من أمر الدنيا ويحسده عليها، فيتمنى له مثلما معه من أمر الدنيا، أو أن تزول نعمة هذا الإنسان، فهذا لا ينبغي.
فلا ينبغي أن يتمنى زوال نعمة الغير، أو يتمنى أن يكون له حظ من الدنيا كحظوظ أهل الدنيا من اللهو واللعب واللغو؛ إذ لا ينبغي أبداً أن تتمنى ضياع وقتك وأن تلغو مثل فلان، ولذلك جاء في حديث آخر (اثنان هما في الأجر سواء، واثنان هما في الوزر سواء).
فالذين في الأجر سواء رجلان: أحدهما عالم علمه الله عز وجل من القرآن وعلمه من السنة، فهو يعمل بعلمه، وأعطاه مالاً سبحانه وتعالى، فهو بعلمه ينفق ماله في كل وجوه الخير، ورجل آخر فقير ليس عنده مال ولا علم، فهو ينظر إلى هذا العالم الذي يتصدق وينفق فيقول: يا ليت لي مثل ما مع فلان، ولو كان لي مثل ما مع فلان لفعلت أكثر منه، فهذا فقير محروم ليس معه مال، لكن نيته صالحة.
فهو النية الجميلة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هما في الأجر سواء، واثنان في الوزر سواء، رجل ليس عنده علم وعنده مال كثير، وينفق هذا المال في سبل الشر جميعها، ورجل ليس عنده علم وليس عنده مال فيقول: لو أن لي مثل ما عند فلان لفعلت أكثر منه -يعني من المعاصي والشرور والمصائب- فهما في الوزر سواء).
فالإنسان إذا تمنى الشر أثم عند الله عز وجل إذا علم الله من نيته أنه لو مكن من هذا لفعل، أما من تمنى الشيء ثم تركه خوفاً من الله فهذا يؤجر، وتكتب له حسنة عند الله عز وجل.
ولذلك فاحذر من تمني الشر، واحذر من حسد الناس وتمني زوال النعمة عنهم.
وقالوا: ما رأينا ظالماً أشبه بمظلوم من الحسود.
فالإنسان الحسود كلما رأى خيراً وصل لأحد حزن واغتاظ وكأنه مظلوم في هذا الأمر.
فمثل هذا الرجل هو ظالم لنفسه وظالم لغيره ومتشبه بالمظلومين خسر الدنيا والآخرة، حيث حرم في الدنيا فلم يعط، وهو في الآخرة يحاسب على حسده للخلق.
وربنا يقول لنا: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:٥٤] أي: هذا فضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء.