جاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى؛ فأرصد الله له على مدرجته ملكاً).
هذا رجل مسلم زار أخاً مسلماً في قرية أخرى، وسافر إليه، وقطع طريقاً بعيداً حتى يصل إلى أخيه، فالله سبحانه تبارك وتعالى أرصد له على مدرجته أي: على طريقه ملكاً ينتظره في هذا الطريق، (فلما أتى هذا الرجل على الملك -كان لا يعرف أن هذا ملكاً بل ظنه إنساناً أمامه يسأله- قال الملك: أين تريد؟ فقال: أريد أخاً لي في هذه القرية، فقال الملك لهذا الرجل: هل لك عليه من نعمة تربها؟ -هل لك عليه من نعمة تذهب لها وتسعى من أجلها، من مال أو مصلحة- فقال: لا، غير أني أحبه في الله، قال له الملك -وأظهر نفسه- فإني رسول الله إليك أن الله قد أحبك كما أحببته فيه) كما أنك أحببت هذا الإنسان فإن الله قد أحبك سبحانه تبارك وتعالى.
هذا الحديث ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ليعلم المؤمنين إذا أحبوا بعضهم في الله أن ينتظروا الأجر من الله.
فإذا أحببت إنساناً فلا تنتظر منه نفعاً، ولا تنتظر منه أن يقول لك: أنا أحبك، ولكن ليكون هذا الحب لله سبحانه تبارك وتعالى، وانتظر الأجر من الله، فهذا الرجل لم ينتظر من صاحبه شيئاً من نعمة، أو مال أو شيء ينتفع به، إنما انتظر ثواب الله فأرسل الله إليه ملكاً يبلغه أن الله يحبه سبحانه.
ومن هذه الأحاديث ما رواه الإمام مالك في موطئه بإسناد صحيح عن أبي إدريس الخولاني رضي الله عنه-وهو من التابعين- قال: دخلت مسجد دمشق فإذا فتى براق الثنايا، وإذا الناس معه، فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه وصدروا عن رأيه، فسألت عنه، يعني: أن أبا إدريس الخولاني ذهب إلى الشام، فأتى دمشق فدخل المسجد الجامع، فإذا فتى براق الثنايا، والثنايا: الأسنان الأمامية، وبراق يعني: أنه لا يفتر ثغره عن التبسم، وحين يتبسم تظهر أسنانه البيضاء الجميلة، والناس يصدرون عن رأيه، وإذا اختلفوا في شيء يرجعون إليه فيفتيهم جميعاً، ولا يختلفون عن رأي هذا الرجل العظيم.
قال: فسألت عنه فقيل: هذا معاذ بن جبل رضي الله عنه، وحق له أن يُؤْخَذَ بفتواه، وأن يصدر الناس عن رأيه رضي الله عنه، كيف لا وقد أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم:(إنه أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام)، ومعاذ بن جبل كان عمره عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بضعاً وعشرين سنة رضي الله تبارك وتعالى عنه، لم يكن شيخاً كبيراً كـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، هذا الرجل كان أعلم الناس بالحلال والحرام، وأرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ليفقه الناس، ويعلمهم الحلال والحرام رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فلما رجع معاذ بن جبل من اليمن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد توفي، وبعد ذلك رحل إلى دمشق، فكان يعلم الناس هنالك رضي الله عنه، فيقول أبو إدريس الخولاني: لما كان من الغد هجَّرت -يعني: ذهبت إلى المسجد مبكراً قبل صلاة الظهر- فوجدته قد سبقني بالتهجير -يعني: معاذاً سبقه وذهب إلى المسجد مبكراً؛ حرصاً على صلاة الجماعة- قال: ووجدته يصلي -يعني: قبل الظهر بفترة يصلي صلاة الضحى- قال: فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه فسلمت عليه، ثم قلت له: والله إني لأحبك في الله.
يُلاحظ أن أبا إدريس الخولاني لم ير معاذاً قبل ذلك، ولم يسمع من معاذ شيئاً ولا يعلم عنه سوى أنه يفتي الناس والناس يأخذون بكلامه، ولكن ألقى الله عز وجل محبته في قلبه، وكان من يرى معاذاً يحبه رضي الله عنه؛ لنور إيمانه ولعلمه العظيم، فبعد أن قال: والله إني لأحبك في الله قال: آلله -يعني: يستحلفه بالله، أحقاً هذا الذي تقوله؟ - فقلت: آلله -أي: نعم والله أحبك في الله- فأخذ بحبوة ردائي -وحبوة الرداء: مجمع الرداء- فجذبني إليه، فقال: أبشر! فإني سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيّ -أي: وجبت محبة الله عز وجل لكل مؤمن يحب أخاه في الله سبحانه ليس لأجل الدنيا- وللمتجالسين في) وهذه بشارة من الله عز وجل على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل مؤمن جلس في بيت الله عز وجل يحضر دروس العلم حباً في الله، وحباً في كلام رسول الله صلوات وسلامه عليه، وقوله:(وللمتجالسين فيَّ) أي: الذين يجلسون يسمعون كتاب الله، ويسمعون سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويتفقهون في الدين، فالذين جلسوا من أجل ذلك وجبت لهم محبة الله سبحانه تبارك وتعالى قال:(وللمتزاورين فيَّ) يعني: أن المسلم متى يزور أخاه في الله سبحانه تبارك وتعالى فإن الله يحبه سواء كان هذا الأخ أخاً في النسب أو أخاً في الله، ويزوره لا لمصلحة في الدنيا، إنما يصل رحمه، ويزوره ابتغاء مرضات الله عز وجل، وحباً في الله سبحانه تبارك وتعالى، قال:(وللمتزاورين في وللمتباذلين في) أي: من يبذلون أموالهم، وأوقاتهم، وعلمهم، وأنفسهم وأرواحهم ابتغاء مرضات الله سبحانه، فهؤلاء وجبت محبة الله عز وجل لهم.