[شرح قوله: (تعس عبد الدينار)]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الحافظ المنذري رحمه الله: [الترغيب في الزهد: روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، وإن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع).
وروى الترمذي عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه).
وروى الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان ضاريان جائعان باتا في زريبة غنم أغفلها أهلها يفترسان ويأكلان بأسرع فيها فساداً من حب المال والشرف في دين المرء المسلم).
هذه أحاديث يذكرها الحافظ المنذري رحمه الله في الزهد في الدنيا، فالإنسان لا يطمع فيها وكلما علم من كتاب الله سبحانه وتعالى شيئاً عن هذه الدنيا زاد زهداً فيها، كقوله سبحانه: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:١٨٥]، فالدنيا متاع غرور، وكم يتمتع هذا المغرور بهذه الدنيا؟ فالمغرور يتمتع بشيء يغره، أي: بصحة وعافية وقوة في بدنه ومنصب ورئاسة ومال وجمال ولا تدوم هذه الأشياء.
فالإنسان مهما تمتع فإنه في النهاية يترك ذلك، فليحرص الإنسان على الدين وليترك الدنيا لأهلها ولا يتكالب عليها ولا يطمع فيها، فإنه لن ينال منها إلا ما قسمه وكتبه الله عز وجل له.
من الأحاديث التي في هذا الباب: حديث أبي هريرة رواه الإمام البخاري في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة).
والتعس بمعنى: الهلاك والعثار والسقوط، والتعس بمعنى: الشر، وبمعنى: الانحطاط والبعد، فكل هذا دعاء يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الإنسان، أي: بعد هذا العبد، وانحط وسقط ووقع ولم يجد من يرفعه، تعس هذا الذي نسي أنه مخلوق لعبادة الرب الواحد سبحانه وتعالى وعبد الدنيا وعبد الدرهم والدينار، (تعس عبد الدينار)؛ لأنه نسي نفسه.
والإنسان عبد لله سبحانه، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦]، عابد لله يعرف ما الذي يريده الله وهو يؤدي حق الله سبحانه كما يريد الله، فهواه تابع لدين رب العالمين سبحانه، هذا هو عبد الله، وغير ذلك يكون عبداً لهواه ولشهوته أي: تابعاً لهواه، حيثما ذهب به الهوى ذهب وراءه، وحيثما أدت به شهوته كان وراءها، فهو متبع للهوى ومتبع للدرهم ومتبع للدينار، صار عبداً لهذه الأشياء، يجري وراءها في حلال وفي حرام، ويريد أن يخطفها ويأخذها، فقال صلى الله عليه وسلم داعياً على من هذا حاله: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة).
كأن الإنسان يكون عبداً للمال الكثير، بل قد يكون عبداً للمال الحقير أيضاً، فالمال الكثير معبر عنه بالدينار، والمال الحقير معبر عنه بالدرهم.
والخميصة: القماش أو الخرقة التي يلبسها الإنسان فيصير عبداً لذلك طامعاً في قطعة وخرقة وقماش فيختلسها ويسرقها، وهواه يدفعه أن يأخذها باختلاس وبخيانة وبطمع وبشره وبانحطاط، فتراه يركض وراء هواه في أي صورة من الصور، ويريد أن يحصل هذه الأشياء، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكر من حاله: (إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط) يعني: كأنه يتبع الناس على أموالهم، إذا الناس أعطوه المال فرح ورضي بذلك، وإذا لم يعطوه ذلك يذم الناس ويتسخط؛ لأنهم لم يعطوه.
ترك دينه وراءه ظهرياً واتبع هواه واتبع مطامعه فتعس هذا الإنسان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس وانتكس)، دعا عليه بالتعاسة والانتكاس، انتكس الإنسان يعني: سقط على وجهه، وانتكس المريض بمعنى: أنه لما قارب شفاؤه وصحته إذا به ينقلب عليه المرض فيصير أشد مما كان.
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الإنسان الشره الذي يطمع في الكثير وفي القليل، ورضاه للدنيا فقط، فلا يرضى للدين ولا يرضى لله سبحانه وتعالى، ولا يسأل عن دينه، إنما سؤاله عن الدنيا ورضاه وسخطه في الدنيا.
قال: (تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، دعاء عليه يعني: لو دخلت في رجله شوكة لا يجد من ينقشها له، نقشها بمعنى: أزالها بالمنقاش الذي تستخرج به الشوكة، كالإبرة ونحوه، فالشوكة إذا دخلت في رجل هذا الإنسان لا يلقى الذي ينقشها له، دعاءً من النبي صلى الله عليه وسلم عليه.