للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم السحور بعد الأذان الثاني للفجر]

جاء عند أبي داود وأحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمع أحدكم النداء والإناء في يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه)، زاد أحمد: (وكان المؤذن يؤذن إذا بزغ الفجر)، وقد قررتم فيما سبق أن من الواجب على الإنسان إذا سمع النداء وفي فمه شيء أن يلقيه ولا يبلعه، فكيف الجمع بين هذا وذاك؟

الجواب

قد استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على جواز أكل ما في اليد والمؤذن يؤذن، والحديث محتمل لهذا المعنى، وقد ذكر ابن حزم رحمه الله هذا الحديث مع أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرى كثيرة ثم حمل هذا الحديث على الشك، فكأنه يجوز للمتشكك في طلوع الفجر أن يأكل ما بيده والمؤذن يؤذن، ونحن نخاف من أن نقول بهذا الحديث؛ لورود الاحتمالات عليه؛ ولأن الله عز وجل يقول: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} [البقرة:١٨٧] ولم يقل: حتى يتبين للمؤذن فقط، فكأنه يقول: يجب على الناس كلهم أن يستيقنوا بزوغ الفجر ودخول وقته، ما لم فليأكلوا ما بأيديهم حتى يستيقنوا من ذلك.

أيضاً: جاء حديث عند النسائي وأحمد عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند السحور: (يا أنس! إني أريد الصيام فأطعمني شيئاً) أي: يريد أن يصوم تطوعاً صلى الله عليه وسلم قال: (يا أنس! أطعمني شيئاً، قال: فأتيته بتمر وإناء فيه ماء وذلك بعدما أذن بلال)، وبلال كان يؤذن الأذان الأول، فقال: (يا أنس! انظر رجلاً يأكل معي)، ولاحظ أنه كان بين الأذانين وقت قصير جداً، وقد ذكر: أنه ما كان بينهما من الوقت إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يتسحر لوحده، بل يريد أن يتسحر مع رجل آخر، قال: (فدعوت زيد بن ثابت فجاء فقال: إني قد شربت شربة سويق -وهو الشعير المخلوط بالماء- قال: وأنا أريد الصيام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا أريد الصيام، فتسحر معه، ثم قام فصلى ركعتين، ثم خرج إلى الصلاة)، فكأن زيداً تبين له الفجر فلم يأكل، ولم يتبين للنبي صلى الله عليه وسلم فأكل، ثم امتنع عن الأكل لما تبين له طلوع الفجر بعد ذلك، فهذا الحديث قد يوهم أنه أكل بعد الأذان الثاني وليس كذلك؛ لأنه قد نص في الحديث على أن مؤذن هذا الأذان هو بلال رضي الله عنه، وهو الذي كان يؤذن الأذان الأول، فاندفع الوهم، وارتفع الإشكال.

قال ابن حزم في المحلى بعدما ذكر آثاراً كثيرة جداً عن الصحابة في هذا الشيء: وهذا كله محمول على أنه لم يكن تبين لهم الفجر بعد، وبهذا تتفق السنن مع القرآن.

وقد كان ابن عباس في آخر حياته بعد أن عمي يسأل عن الفجر هل طلع أم لا؟ فإن قال أحدهم: نعم، والآخر: لا، قال: شككتما، ثم يأكل حتى يستيقن، وهذا هو رأي جمهور أهل العلم، والله تعالى أعلم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.