[بعض أحكام الاعتكاف]
يصح اعتكاف الصغير المميز والمرأة، فلو أن صبياً مميزاً أراد الاعتكاف جاز أن يعتكف وإن كانت بعض المساجد تمنع ذلك؛ بسبب الأعداد الكبيرة التي تريد الاعتكاف من الكبار، وخوفاً عليهم من الفتن في المساجد، فالذي يعتكف في المسجد ويبيت في المسجد هم الرجال الكبار.
ويحرم على المرأة المتزوجة الاعتكاف بغير إذن الزوج، فلو أن مسجداً فيه مكان للنساء يعتكفن فيه وأرادت امرأة أن تعتكف فمنعها زوجها، فلا يجوز لها أن تعتكف، فلا بد من إذن الزوج.
ولو أنها نذرت أن تعتكف فينظر هل هذا النذر كان بإذن الزوج أم بغير إذن الزوج؟ فإذا لم تكن استأذنت منه فله أن يمنعها؛ لأن حقه عليها أن تكون في البيت.
لكن إذا نذرت بإذن الزوج فيلزمه أن يسمح لها إذا كان اعتكافاً في وقت معين، أو مكان معين.
الاعتكاف يكون في المساجد قال تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:١٨٧]، واللام في كلمة (المساجد) للجنس، أي: كل المساجد، أو للعهد، أي: المساجد المعهودة لصلاة الجماعة، أو مساجد الجمعة، فهي لمساجد التي تصح فيه صلاة الجماعة وليس مسجد البيت، فلو أن إنساناً عمل غرفة داخل بيته وقال: هذا هو المسجد الذي أصلي فيه، فيسمى مسجداً ولكن ليس هو الذي يصح فيه الاعتكاف، بل لا بد أن يكون المسجد المعروف أو المعهود شرعاً.
فالاعتكاف يكون في أي مسجد من المساجد طالما أنها تصلى فيه جماعة، فيصح الاعتكاف في كل مسجد جماعة، وهذا الصواب من أقوال أهل العلم، وإن ذهب البعض وهم ندرة قليلة جداً إلى أنه لا بد أن يكون الاعتكاف في المساجد الثلاثة فقط.
فهذا رأى بعض أهل العلم من الصحابة مثل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، ولكن جماهير العلماء من الصحابة ومن بعدهم على خلاف ذلك.
فقد جاء عن حذيفة أنه أنكر على الناس في العراق أن يعتكفوا ما بين دار ابن مسعود وبين داره، فقال لـ ابن مسعود: ألا تعجب لأناس عاكفون ما بين دارك وبين كذا، وقد علمت أنه لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة؟ فقال في رواية: لقد علمت، أو أنه قال: وعلمي ذلك، أو أنه رفع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى، وكل هذا بنفس الإسناد، فكأن الراوي شكك في هذا.
وإذا جاء بعض أهل العلم وصحح هذه الرواية فلا يلزمنا التصحيح في ذلك؛ لأن القرآن يخبر {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:١٨٧].
فالتخصيص يحتاج إلى دليل قوي، وليس دليلاً ظاهره الاحتمال، بل لا بد أن يكون دليلاً قوياً في ذلك، ولذلك لما قال حذيفة ذلك لـ ابن مسعود، قال ابن مسعود يرد عليه: لعلهم أصابوا وأخطأت.
يعني: لعلك أنت الذي نسيت أن الاعتكاف في المساجد الثلاثة له فضيلة على بقية المساجد، وعلى فرض تصحيح الحديث، فيؤول الحديث على أنه يرجى فيها الفضل العظيم فتشد لها الرحال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد).
فإذا نظرنا إلى من قال ذلك سنجد حذيفة من الصحابة، فقد حكى أنه لا يصح الاعتكاف إلا في المساجد الثلاثة فقط: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، وبيت المقدس.
وقال الزهري، والحكم، وحماد: إن الاعتكاف لا يصح إلا في الجامع، وكأنهم يفرقون بين المسجد الذي تصلي فيه الجمعة والذي لا تصلي فيه، فقالوا: لا يصح إلا في المسجد الذي يصلى فيه جمعة وجماعة.
وقال أبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور يصح في كل مسجد تصلى فيه الصلوات كلها، وهذا قول جمهور العلماء.
وقال عطاء: لا يصح إلا في مسجد مكة والمدينة فقط، المسجد الحرام ومسجد المدينة.
وسعيد بن المسيب يقول: لا يصح إلا في مسجد المدينة فقط، وستجد أقوالاً قالها الواحد أو الاثنان، وأما جماهير الأمة فقالوا: الآية تفيد أن الاعتكاف يصح في كل المساجد، ولا يوجد دليل على التخصيص، والدليل الذي توهمه بعض أهل العلم فليس نصاً في المسألة، بل إن الحديث جاء في روايتين مختلفتين، وقد أنكر عليه ابن مسعود رضي الله عنه.
وقال العلماء وبفرض صحته فيكون معناه: لا اعتكاف أجمل ولا أكمل ولا أتم من أن يكون في المساجد الثلاثة، أما في غيرها من المساجد فالاعتكاف فيها جائز في أي مسجد من المساجد.
وأفضل الاعتكاف أن يكون في المسجد الحرام، وبعده المسجد النبوي، وبعده بيت المقدس، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)، فالمسجد الحرام الصلاة فيه بمائة ألف صلاة، ولذلك كان الاعتكاف فيه أفضل؛ لأن الاعتكاف تكثر فيه الصلاة، والصلاة في المسجد الحرام فضلها وأجرها كبير كما سبق، وأنت على صلاة ما دمت على وضوء ولو لم تصلِ.
والأفضل هو الاعتكاف في مسجد تصلى فيه الجمعة؛ لكي لا يضطر للخروج يوم الجمعة والصلاة في مسجد آخر، فالأفضل ألا يخرج من المعتكف، فيصلي في المسجد الذي تصلى فيه الجمعة، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله تعالى).
وأما قوله: لا اعتكاف إلا مسجد جامع، فهذا ليس مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، بل هو من قول عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها في ذلك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.