[الأحاديث التي فيها تحري ليلة القدر]
وفي الصحيحين عن ابن عمر أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر, فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخبروه بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر) ولو كان يعرف أي ليلة هي لأخبرهم صلى الله عليه وسلم، ولكنه مرة رأى رؤيا منامية فلما أصبح ذهب ليخبرهم بها فنسيها.
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجاور في رمضان العشر التي في وسط الشهر, فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة تمضي ويستقبل إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه) ومعنى يجاور: يعتكف، أي: كأنه كان يبقى معتكفاً, من يوم عشرة من الشهر إلى يوم عشرين, وليلة واحد وعشرين يكون في بيته عليه الصلاة والسلام، فكان يعتكف العشر الوسطى من الشهر, قال أبو سعيد الخدري: (وأنه أقام في شهر جاور الليلة التي كان يرجع فيها فخطب الناس) أي: في ليلة واحد وعشرين كان يرجع إلى بيته إلا في هذه السنة فإنه اعتكف، فخطب بالناس فقال: (كنت أجاور هذه العشر ثم قد بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر -أي: العشر الأخيرة من رمضان- فمن كان اعتكف معي فليثبت في معتكفه، وقد أريت هذه الليلة) فالعلة في الاعتكاف من أجل ألا تضيع عليه ليلة القدر.
وقال لأصحابه: (قد أريت هذه الليلة ثم نسيتها) أي: أنه صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن ليلة كذا هي ليلة القدر, فلما أصبح الصبح وهو ذاهب إلى أصحابه يحدثهم بها، فرأى اثنان يتعاركان فرفع عنه علم هذه الليلة في هذه السنة, ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فابتغوها في العشر الأواخر -أي: العشر الأواخر شفعاً ووتراً- وابتغوها في كل وتر -أي: أكثروا من العبادة خاصة في الليالي الوترية- وقد رأيتني أسجد في ماء وطين) أي: أنه رأى في المنام أنه ساجد في هذه الليلة في ماء وطين صلى الله عليه وسلم، وكان قد أخبر عن هذه الليلة في هذا العام فلما خرج نسيها عليه الصلاة والسلام لأنه قال في رواية: (فجاء رجلان يحتقان معهما الشيطان) أي: يتعارك كل واحد مع الآخر، فيقول الأول: هذا حقي، ويقول الثاني: هذا حقي, فاختصما أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء معهما الشيطان فنسي النبي صلى الله عليه وسلم هذه الليلة في ذلك العام, ولكن ذكر في الرؤيا أن هذه الليلة سيقوم فيها من سجوده وعلى جبهته أثر ماء وطين, فاستهلت السماء ليلة من ليالي العشر الأواخر من رمضان أي: أمطرت، (فبصرت عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظرت إليه -أي: بعدما انتهى من صلاة الصبح- ووجهه ممتلئ طيناً وماء) يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد على أرض المسجد, وكان فيه حصى ولم يكن فيه سجاد ولا موكيت، فحولت السماء أرض المسجد من تراب إلى طين، فسجد النبي صلى الله عليه وسلم على الأرض, فانصرف من صلاته وعلى وجهه أثر الماء والطين فعرفوا أن البارحة كانت ليلة القدر, لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه رأى في المنام أنه على جبهته في صبيحتها الماء والطين.
وكانت هذه الليلة كما قال رضي الله عنه: (ليلة إحدى وعشرين)، والصواب من قول أهل العلم أنها ليلة متنقلة وليست ثابتة, فهي ليست ليلة سبع وعشرين فقط، بل هي ليلة متنقلة من ليلة إحدى وعشرين إلى آخر الشهر شفعاً ووتراً كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (هي في تسع يمضين أو في سبع يبقين -يعني: ليلة القدر-).
وفي حديث آخر قال: (التمسوها في العشر من رمضان، في تاسعة تبقى, في سابعة تبقى, في خامسة تبقى) هذه الليالي يكون عدها من آخر الشهر إلى أول الشهر, فتاسعة تبقى إذا كان الشهر ثلاثين يوماً وستكون ليلة إحدى وعشرين, وإذا كان تسعة وعشرين يوماً ستكون ليلة عشرين, أو إذا كان الشهر ثلاثين يوماً ستكون ليلة اثنين وعشرين, والتاسعة الباقية منها، فكأنه جعلها بين الشفع والوتر, فمن تحري ليلة إحدى وعشرين، فليتحر معها ليلة اثنين وعشرين, وسابعة تبقى أي: يتحرى ليلة ثلاث وعشرين وأربع وعشرين، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن تقام جميع الليالي الأخيرة ولا يفرط فيها لكي تدرك هذه الليلة.
وقوله صلى الله عليه وسلم في التاسعة تبقى والسابعة والخامسة يكون العد فيها من أول العشر، أي: من واحد وعشرين، فتلتمس ليلة خمسة وعشرين وسبعة وعشرين وتسعة وعشرين, أو ليلة واحد وعشرين وثلاث وعشرين وخمسة وعشرين.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم في حديث آخر في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن أنيس رضي الله عنه قال: (فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه) هذه ليلة القدر للمرة الثانية وكانت في سنة أخرى, وفي الحديث الذي مضى كانت في ليلة إحدى وعشرين, وفي هذا الحديث الذي في صحيح مسلم كانت في ليلة ثلاث وعشرين, وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أن نزول القرآن كان ليلة أربع وعشرين.
نذكر هذا حتى لا يتحرى المتحري ليلة سبع وعشرين فقط فيضيع على نفسه خيراًً كثيراً، ولكن الحرص يكون على الليالي الأخيرة كلها بالصلاة لله عز وجل, سواء كان ذلك في المسجد أو في البيت.
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (تذاكرنا ليلة القدر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيكم يذكر حين طلع القمر وهو مثل شق جفنة) أي: أنهم كانوا يتذاكرون ليلة القدر بعد أن انتهى رمضان فقال لهم: إنها في الليلة التي طلع القمر فيها مثل شق الجفنة.
وفي حديث آخر قال: (التمسوها في العشر الأواخر لتسع يبقين أو لسبع يبقين أو لخمس يبقين أو لثلاث أو آخر ليلة) أي: أنها تلتمس في ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبع وعشرين وتسع وعشرين وليلة ثلاثين؛ فيمكن أن تكون هي ليلة القدر, ولأن المسلم قد يقول: رمضان انتهى فلماذا أقوم؟ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها قد تكون في آخر ليلة, فالمؤمن يحرص على أن يصلي هذه الليلة من أجل أن يصيبها، وليواظب على قيام العشر الأواخر من رمضان.
وجاء عن بعض الصحابة وهو عبد الله بن أنيس أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله إن لي بادية أكون فيها -له إبل في البادية ولا يستطيع أن يتركها كل يوم ويقعد مع النبي صلى الله عليه وسلم- فأخبرني عن ليلة آتي أصلي معكم في المسجد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم انزل ليلة ثلاث وعشرين) فكانت هذه الليلة في ذلك العام هي ليلة القدر، وواظب الرجل على هذه الليلة في كل عام.
وقال غيره من الصحابة: إنه كان يجتهد في العشرين من رمضان، فإذا دخل العشر اجتهد، قال أبو بكرة رضي الله عنه: ما أنا ملتمسها لشيء سمعته من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا في العشر الأواخر, أي: لن يلتمسها في أول رمضان بل في آخر رمضان, قال: فإني سمعته يقول: (التمسوها في تسع يبقين أو في سبع يبقين أو في خمس يبقين أو في ثلاث أو آخر ليلة) أي: سيكون حساب الشهر من ليلة واحد وعشرين إلى آخر ليلة، وكان أبو بكرة راوي هذا الحديث يصلي في العشرين من رمضان كصلاته في سائر السنة, أي: أنهم كانوا متعودين على قيام الليل في السنة كلها, فإذا كان في العشر أو دخل العشر اجتهد فيها، وهذا هو ما علمهم النبي صلى الله عليه وسلم، (فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد المئزر) وهذا كناية عن اعتزاله النساء في هذه العشر الأواخر من رمضان.