[أفضل صيام التطوع]
إن أفضل صيام التطوع لمن استطاع هو صوم داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهو أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر: (أن أفضل الصلاة، صلاة داود)، وهي صلاة التهجد أي: صلاة الليل.
ووردت قصة في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن أباه زوجه من امرأة من الفضليات من النساء، وذهب يسأل عن ابنه، فسأل امرأته، فذكرت فيه مدحاً هو في حقيقته ذم، فقالت: (إنه يقوم الليل ويصوم النهار)، ففهم عمرو بن العاص وكان ذكياً رضي الله عنه أنها تقدح ولا تمدح، فذهب إليه وأنبه وعنفه، ثم ذهب يشكوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ألم أخبر أنك تصوم ولا تفطر وتصلي؟ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: صم وأفطر وقم ونم، فإن لعينك عليك حقاً، وإن لنفسك وأهلك عليك حقاً، فقال عبد الله بن عمرو إني أطيق أكثر من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في النهاية: فصم صوم داود)، وفي رواية أخرى، قال: (وتقرأ القرآن كل ليلة)، وكأن عبد الله بن عمرو يقرأ القرآن كل ليلة، وهذا صعب جداً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ألم أخبر أنك تصوم الدهر، وتقرأ القرآن كل ليلة)، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم كره ذلك، ومع ذلك فهو لا يحرم؛ لأن عبد الله بن عمرو فعله، ولم يأثمه النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن وجهه لما هو أرفق به، فقال: (بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام، قال: فقلت: يا نبي الله! إني أطيق أكثر من ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن لزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً، فصم صوم داود).
والإنسان ليس مخلوقاً للصوم فقط، ولا للصلاة فقط، بل هو مخلوق لإقامة شرع الله عز وجل كله، عاملاً على أداء كل الحقوق، كحقوق الله عز وجل، وحقوق خلقه من أهلٍ وأولاد وغيرهم.
وقوله: (إن لزورك عليك حقاً)، أي: لضيفك عليك حقاً، من هنا عُلمَ أن الحقوق ينبغي أن تعطى لأصحابها، إذ لو أنك تصوم على الدوام، وتقوم على الدوام، فإنك لا شك ستتعب، وقد لا تستطيع أن تعمل، فتعجز عن أن تنفق على عيالك، أو من لزمتك نفقتهم، فتكون قد فرطت وقصرت، وهذا هو سر توجيه النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله حيث وجهه بصيام ثلاثة أيام من الشهر، ولما أبى، وظل يراود النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أفضل الصوم صيام داود، فقد كان يصوم يوماً ويفطر يوماً وكان لا يفر)، وكأنه يشير إلى أن هناك شيء مطلوب منكم أيضاً، وهو أن تجاهدوا في سبيل الله عز وجل، فإنك حين تكثر من الصيام ستكون ضعيفاً، وإذا قابلت أعداءك لعلك تفر من الزحف، ومعلوم أن (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)، كما أنك لو داومت على الصوم فإن نفعه مقتصر على نفسك، لكن الجهاد نفعه متعد إلى الأمة، فكيف تظل هزيلاً ضعيفاً وأنت ستقابل عدوك بالسيف لتقاتله؟ فنبه النبي صلى الله عليه وسلم أن داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ولكن كان لا يفر، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وبذلك علم أن من كان صيام النافلة يضعفه عن واجب من الواجبات، فلا داعي له، ولهذا السبب قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحابة الذين صاموا وهم مصبحين العدو، في يوم فتح مكة: (أولئك العصاة، أولئك العصاة)، وكأنه يقول لهم: الوقت الآن وقت جهاد في سبيل الله عز وجل، فلو أنك أفطرت الآن، فلك عذرك في الإفطار، وليس عليك قضاء، ولا يلزم أحد من أهلك القضاء، أو الإطعام عنك، فلماذا تشق على نفسك؟ فجاهد في سبيل الله، وقاتل أعداء الله، فذلك أولى من الصيام، إذ أن نفع الصوم لنفسك، ولكن نفع الجهاد للمؤمنين جميعهم ولدين الله عز وجل.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمرو بن العاص: (اقرأ القرآن -في رواية- في أربعين يوماً، فقال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: في شهر، قال: أكثر من ذلك، قال: فاقرأه في كل عشرين، قال: يا نبي الله: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: فاقرأه في كل سبع، ولا تزد على ذلك)، فندبه أن يختم في أسبوع؛ لأن ذلك أفضل ما يكون عليه المرء من قراءة القرآن ثم قال: عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: (فشد فشددت، فشدد عليّ)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال له: (إنك لا تدري لعلك يطول بك عُمر)، يريد: إنك سوف تكبر وتصير شيخاً، فلا تستطيع على الذي تقوله، فيقول عبد الله بن عمرو: فصرت إلى الذي قال لي النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كبرت وددت أني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يتساءل القارئ لماذا لم يقبل عبد الله الرخصة بعدما ضعف؟ والجواب أن الصحابة رضوان الله عليهم يحبون أن يلقوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة غير مبدلين، فكأنه عاهد النبي صلى الله عليه وسلم على شيءٍ، فلا يستجيز لنفسه تركه حتى ولو كبر سنه، ولذلك ظل عبد الله بن عمرو يفعل ما حدث به النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن توفاه الله عز وجل.
وقد روي عنه أنه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان ذلك يشق عليه جداً وهو شيخ كبير، فكان يجمع أياماً يفطرها، ثم يعوض مكانها أياماً يصومها، فكان يتقوى بهذه على تلك ويقول: يا ليتني أخذت برخصة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء في رواية أخرى أنه قال: إني أطيق أكثر من ذلك، عند مراجعته النبي له على قراءة القرآن -يريد أن يختم القرآن في أقل من سبعة أيام- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث)، وليس في هذا دلالة على تحريم قراءة القرآن في أقل من ثلاث، ولكن أخبر أن العادة: أن الإنسان الذي يقرأ القرآن في أقل من ثلاث، لن يفهم ما يقرأ، وإن كان له ثواب القراءة.
وبذلك علم أن ثمة فرق بين من يقرأ ويفقه ما يقرؤه، وبين من يقرأ قراءة سريعة لا يفقه فيها ما يقرؤه، وإن كان هذا يثاب وهذا يثاب.
فعلى ذلك تكون قراءة القرآن في سبعة أيام أفضل من قراءته في ثلاثة أيام، وإذا كان يطيق في ثلاثة أيام فذلك خير، ولكن لا يقل عن ذلك، فلو فعل فهو مثاب؛ لأنه إن ينشغل بقراءة القرآن، أفضل من أن ينشغل باللهو وغير ذلك، ولكن القراءة بتركيز وفهم، أفضل من القراءة السريعة التي لا فهم معها، وفي كل خير.