[اختلاف العلماء في حكم رؤية الهلال في بلد دون بلد آخر]
ظهور الهلال يكون برؤية شاهد أو شاهدين له، فإذا قبل القاضي أو مفتي البلد شهادتهما فعندها يصوم الناس، والآن يعتمدون في رؤية الهلال على المراصد، فعلى ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون) فالصوم يكون مع الجماعة.
فإذا رؤي الهلال في بلد من البلدان وقرر مفتي البلد بأن هذه الرؤية رؤية صحيحة وألزم الناس بها فالراجح أنه يلزم الجميع أن يصوموا، وإذا كان هذا البلد يأخذ بتقرير المرصد فعلى ذلك يكون صيامنا مع أهل بلدنا، فالذي يلزم المفتي شرعاً أنه إذا تأكد من رؤية الهلال في منطقة يجتمع فيها مجموعة من البلدان في ليل واحد يلزمه أن يأخذ بهذه الرؤية، وأن يأمر الناس بالصيام، فعلى ذلك هذا الأمر أو الحكم متعلق بمن يفتي للناس، أما التأكد من أن الشاهد رأى أم لم ير فهذه ليست من اختصاصنا وليست من اختصاص آحاد الناس، وإنما اختصاص القاضي أو المفتي في هذا المكان، فالذي يلزمنا أننا نصوم مع الناس ونفطر مع الناس لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون) فيكون صيام كل المسلمين معاً وإفطار كل المسلمين معاً أو على الأقل أهل البلد الواحد، وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، والجمهور على أنه إذا ظهر الهلال في بلد يلزم باقي البلدان أن يصوموا طالما أنهم صدقوا رؤية هذا الرائي.
وذهب الشافعية إلى أنه لا يلزم أهل بلد رؤية بلد أخرى، وإنما يلزمهم رؤية بلدهم فقط، لما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذا المعنى، يقول كريب فيما رواه مسلم: (أن أم الفضل بنت الحارث التي هي أم ابن عباس رضي الله عنهما بعثت كريباً إلى معاوية في الشام قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها، واستهل علي رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة) أي: يوم الخميس المغرب رأوا الهلال وكريب رأى الهلال مع من رآه.
قال: (ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته، فقلت: نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) فـ ابن عباس اجتهد في هذه المسألة على ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يذكر ابن عباس ما الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم، والواضح أن ابن عباس كان عمره في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة، وليس من الممكن أن يسمع ما لم يسمعه غيره خاصة في هذا، ولعله أخذ بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) فقال: هذا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فنزله كفتوى منه في هذا الشيء، ولعله قصد أنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأتموا عدة شعبان ثلاثين يوماً) فجعله محمولاً على رؤية أهل البلد، فلذلك قال: نصوم على رؤية المدينة ونفطر على رؤية المدينة ولا يلزمنا ما رآه معاوية، حتى وإن كان كريب الذي يحدث ابن عباس قد رآه رضي لله عنهما، وقد أخذ بذلك الشافعية وقالوا: إنه يلزمنا رؤية البلد التي نحن فيها.
يقول ابن تيمية في هذه المسألة: تختلف المطالع باتفاق أهل المعرفة بهذا، فإن اتفقت المطالع لزمه الصوم وإلا فلا، يعني: مطلع الهلال على مجموعة من البلدان بامتداد الأفق قد يتفق وقد لا يتفق، فيمكن أن تراه هذه المجموعة كلها وقد يراه بعضها ولا يراه البعض الآخر، فإذا قلنا: إنه خلال نصف ساعة يظهر الهلال في هذا المكان والأرض تدور خلال هذه الفترة فيكون في هذا الوقت يظهر في المكان الفلاني بعده بقليل، ويظهر في المكان الفلاني بعده بقليل، وبهذا يطلع الهلال على مجموعة من البلاد في هذه الليلة.
وعلى ذلك نقول: إذا طلع الهلال في بلد هنا الساعة الخامسة والربع، وفي الآخر الساعة الخامسة وستة عشر دقيقة، وفي الآخر الساعة الخامسة وثمانية عشر دقيقة، فنقول: اتفقت المطالع هنا.
قال: فإذا اتفقت المطالع لزمه الصوم وإلا فلا.
وهذا قول الشافعية وقول في مذهب أحمد.
وقال في مجموع الفتاوى: (مسألة رؤية بعض البلاد رؤية لجميعها فيها اضطراب) يعني: أنه إذا ظهر في بلد فإنه يلزم الكرة الأرضية كلها الصيام، قال: هذا فيه اضطراب.
قال: (فإنه قد حكى ابن عبد البر أن الاختلاف فيما يمكن اتفاق المطالع فيه، فأما ما كان مثل الأندلس وخراسان فلا خلاف أنه لا يعتبر) يعني: إذا رؤي في الليل وفي المكان الآخر ما زال الوقت نهاراً، فلا يلزم الآخرين هذه الرؤية ولن يصوموا معهم في هذا اليوم، هذا كلامه.
ثم قال: (فالصواب في هذا ما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون) فإن شهد شاهد ليلة الثلاثين من شعبان أنه رآه بمكان من الأمكنة قريب أو بعيد وجب الصوم، والاعتبار ببلوغ العلم بالرؤية في وقت يفيد) هذا اختياره، يريد أن يقول: إن كريباً على مسافة كبيرة عن المدينة لما كان بالشام فهذه الرؤية التي رآها لن تفيدهم الآن، لكن الرؤية التي تكون في مكان بحيث تبلغ للبلدان الأخرى ويتفقون في مطلع واحد، فعلى ذلك يلزم أنهم يأخذون بذلك، فالمسألة مختلف فيها على أقوال للعلماء، فالجمهور على أن الرؤية في بلد تتفق في المطلع مع بلد أخرى أو مع بلدان أخرى إذا وثق فيها يلزم الصيام ويلزم الإفطار.
فقول الشافعية: إن كل بلد إذا رأت الهلال يلزمها أن تصوم، وإذا لم تر الهلال فلا يلزمها الصيام برؤية غيرها إذا كانت بعيدة عنها، فعلى ذلك الراجح فيها: إذا أقر مفتي البلد بالرؤية فنصوم مع الناس ولا يكون البعض صائماً، والبعض مفطراً.
ويقول في آخر بحثه رحمه الله: فتلخص أنه من بلغه رؤية الهلال في الوقت الذي يؤدى بتلك الرؤية الصوم أو الفطر أو النسك وجب اعتبار ذلك بلا شك، والنصوص وآثار السلف تدل على ذلك، ومن حدد ذلك بمسافة قصر أو إقليم فقوله مخالف للعقل والشرع.
الآن في البلدان لا يتركون لآحاد الأفراد أن يقول: رأيت الهلال فيلزمنا الصوم، وإنما يقومون بأخذ الإنسان الذي رآه وينظرون هل كلامه صواب أو غير صواب بناء على ما يحسبونه في هذه البلدة، هل يمكن أن يرى الهلال أو غير ممكن.