[استحباب البكاء عند قراءة القرآن]
يقول الإمام النووي رحمه الله: ويستحب البكاء عند القراءة، وهي صفة العارفين، وشعار عباد الله الصالحين.
ولا يكون بكاؤه تمثيلاً، وإنما يكون بكاءً من قلبه، وقد كان سفيان بن عيينة رحمه الله يقرأ القرآن ويبكي، وكان من الزهاد رضي الله تبارك وتعالى عنه، فكانوا يقولون له: لا نرى عينيك تدمع.
فقال: ليست النائحة كالثكلى.
يعني: أن النائحة لا تصوت إلا إذا رآها الناس، فهي لا تبكي حقيقة، وإنما تمثل، والإنسان المكلوم حزنه في قلبه، وبكاؤه في قلبه، فإذا فاضت عيناه بالدموع فهذا حسن، وإلا فليجعل خشوعه بينه وبين الله سبحانه تبارك وتعالى.
وقد كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي وهو يقرأ القرآن، وكان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل، أي: كأزيز القدر الموضوع على النار، من بكائه صلوات الله وسلامه عليه، وكتمه للبكاء.
فقد كان يكتم البكاء صلوات الله وسلامه عليه ولا يظهره، وإنما يسر به عليه الصلاة والسلام، وكان أجمل الناس صوتاً صلوات الله وسلامه عليه، وأفضل الخلق تلاوة للقرآن، وما أذن الله لشيء ما أذن لنبيه عليه الصلاة والسلام وهو يقرأ القرآن أن يتغنى به.
يقول الإمام النووي: وقد قال الله تعالى: {إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} [الإسراء:١٠٧ - ١٠٨].
أي: يخرون لله سباحانه ساجدين، كما قال تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:١٠٩]، وهذه صفة العارفين، أنهم يخرون لله سجداً، ويقبلون على الله سبحانه، ويسجدون له سبحانه: {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا} [الإسراء:١٠٨].
فهم لما تدبروا القرآن وتأملوه أعجبهم وأحزنهم ما هم فيه، فقالوا: {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} [الإسراء:١٠٨]، أي: إن ربنا صادق سبحانه تبارك وتعالى، ووعده حق، والجنة حق، والنار حق فخافوا من ذلك فخروا لله ساجدين، قال تعالى: {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:١٠٧ - ١٠٩].
فإذا سجدوا لله عز وجل أظهروا البكاء بينهم وبين الله، وهم مستترون في السجود يبكون، ويزيدهم القرآن خشوعاً.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأ علي، قال: قلت: يا رسول الله! أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟ قال: فإني أحب أن أسمعه من غيري)، فلا بد للإنسان أن يحب سماع القرآن وقراءته، فيستمتع بالقرآن تلاوةً وتدبراً وتفهماً وسماعاً أيضاً، قال: (فقرأت عليه سورة النساء، حتى بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:٤١] فقال: حسبك الآن، فالتفت فإذا عيناه تذرفان)، فقد كان ابن مسعود يقرأ ولا يدري أن النبي صلى الله عليه وسلم يبكي، فقال له: (حسبك)، أي: يكفي، ووقف هنا يتدبر في هذه الآية، ويستحضر هذا الموقف العظيم بين يدي الله عز وجل، وكيف يكون حاله وحال هؤلاء القوم.
والاستفهام هنا معناه تعظيم هذا اليوم بمثل هذا الاستفهام، أي: كيف يكون حالكم يوم القيامة؟! قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء:٤١]، أي: إذا اجتمعت الأمم جميعها، واجتمعت رسل هذه الأمم يشهدون على أممهم، قال تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:٤١] أي: جاء عليه الصلاة والسلام شهيداً ليشهد، والشهيد عند الناس: من يزكيه القاضي فيقبل كلامه.
فيكون معنى الآية: جئنا بك شهيداً، أي: زكيناك وأتينا بك يوم القيامة لتشهد على هؤلاء، فبكى خوفاً من هذا اليوم.
فكيف بالخلق الذين سيشهد عليهم رسلهم، ويشهد عليهم الخلق يوم القيامة؟! نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
لقد بكى عليه الصلاة والسلام خوفاً من هذا الموقف، وخشية من يوم القيامة، صلوات الله وسلامه عليه.