[حكم صوم المجنون]
لا يلزم المجنون الصوم في الحال.
والمجنون يدخل تحته أصناف كثيرة منها: من يجن حيناً ويفيق حيناً، بأن تكون به نوبة صرع، والمجنون فاقد العقل، وغيرهما.
وعليه فإن المجنون لا يلزمه الصوم في الحال؛ لحديث علي الذي تقدم وفيه: (وعن المجنون حتى يفيق) وهذا مجمع عليه.
وإذا أفاق المجنون لم يلزمه قضاء ما فاته بالجنون.
وذلك المجنون إذا كانت أياماً تامة كاملة، وسواء قل أو كثر، وسواء أفاق بعد رمضان أو في أثنائه، كأن جن شخص من بداية شهر رمضان إلى يوم عشرة رمضان، ثم بعد ذلك أفاق، فنقول: هو الآن مكلف، وكان في خلال العشرة الأيام الأولى ليس مكلفاً فلا يلزمه القضاء؛ لأنه غير مكلف؛ ولأنه صوم فات في حال سقط فيه التكليف؛ لنقص في الأهلية، فلم يجب قضاؤه كما لو فات في حال الصغر.
الصورة الثانية: إذا وجد الجنون في جزء من النهار كمن نوى من الليل وأصبح بالنهار صائماً، ثم بين الظهر والعصر ذهب عقله، بأن حدث له صرع أو ما شابه، وسواء كان الصرع الذي جاء له أوقعه على الأرض وأغمى عليه ثم ذهب بعقله، أو أن عقله ذاهب وهو مفيق، فتراه يتكلم ولكنه في غياب عن الوعي والإدراك، حتى وإن كان جالساً، وهذا يحدث عند البعض وخاصة كبار السن، حيث تراه يجلس ثم يذهب في غيبوبة ولا يدري بشيء أبداً، ويأتي عليه وقت الصلاة فينبه لها فلا يفهم شيئاً، ويمكن أن يرفع يده ويكبر ثم يذهب ولا يدري بشيء، فهذا عقله ذاهب الآن، وهو غير مكلف في هذه الحالة، ولكن يستمر ساعة أو ساعتين ثم يرجع له عقله مرة ثانية.
فمثل هذه الصورة نقول فيها: هذا الجزء الذي ذهب فيه عقله لم يكن مكلفاً فيه فلا ينقض صومه، بل لا زال صائماً، حتى لو كان في هذا الجزء أكل أو شرب أو فعل شيئاً مما ينقض صيام غيره؛ لأنه ذاهب العقل غير مكلف في هذا الجزء.
ومثله في الحكم من جن وذهب عقله فجاء إنسان ووضع له دواءً في فمه؛ ليفيق من جنونه.
فهذا الرجل مكره على هذا الشيء وهو ذاهب عقله فلا شيء عليه، وإذا أفاق فصومه صحيح؛ لأنه أكره على ذلك.
ولذلك نقول: إذا وجد الجنون في جزء من النهار لم يفسد الصوم، أما إذا وجد في جميع النهار فلا ينفع الصوم هنا، وذلك كمن جن من الفجر حتى غروب الشمس، فلا يصح صومه، وليس عليه القضاء.
قال الشافعي رحمه الله: (إذا وجد الجنون في جزء من النهار أفسد الصوم؛ لأنه معنى يمنع وجوب الصوم فأفسده وجوده في بعضه كالحيض)، وهذه هي وجهة نظر الشافعي حيث قاس الصوم على الحيض، فالمرأة إذا كانت صائمة ثم نزل عليها الحيض فسد صومها ولزمها القضاء، والجنون مثلها أيضاً في الإفساد.
يقول ابن قدامة راداً على ذلك: لنا أنه زوال عقل في بعض النهار فلم يمنع صحة الصوم قياساً على الإغماء، أي: هناك فرق كبير بين الجنون وبين الحيض، فالمرأة الحائض إنسانة مفيقة عاقلة، أما المجنون فقد ذهب عقله، وأقرب أصل لهذا هو المغمى عليه، والمغمى عليه أجمعوا على أن صومه صحيح، إن كان الإغماء في بعض النهار لا كله، فنقيس المجنون على المغمى عليه في صحة الصوم بالشرط المذكور.
يقول: (لم يمنع صحة الصوم كالإغماء والنوم، ويفارق الحيض، فإن الحيض لا يمنع الوجوب) يعني: أن الحيض لم يمنع وجوب الصوم، بل يجب عليها الصوم، ولكن لا يصح منها لوجود المانع، ولذلك فهي ملزمة بقضاء أيام حيضها.
فإن الحيض لا يمنع الوجوب، وإنما يجوز تأخير الصوم، ويحرم فعله، ويوجب الغسل، ويحرم الصلاة والقراءة واللبث في المسجد والوطء، فلا يصح قياس الجنون عليه؛ لوجود فروق كثيرة بين هذا وذاك؛ لذلك فهذا قياس مع الفارق.
يقول: (وأما إن أفاق في بعض اليوم فلنا منع في وجوب قضائه وهو الصواب)، أي: وهو الصواب أنه لا يجب قضاء من جن في بعض اليوم؛ لأنه غير مكلف في هذا الجزء، بل مكلف في الباقي، واجتمعت النية مع الإمساك في باقي اليوم فصيامه صحيح.
يقول: (وإن سلمنا، فإنه قد أدرك بعض وقت العبادة) يقول: بفرض التنزل، فالذي نقوله: إن المجنون في بعض اليوم فاقد للإدراك، لكنه قد أدرك بعض وقت العبادة فيلزمه القضاء كالصبي إذا بلغ.
والصواب أن الصبي إذا بلغ لا يلزمه القضاء طالما أنه أمسك باقي الجزء من اليوم الذي بلغ فيه، وكذلك الكافر إذا أسلم في بعض النهار، وكما لو أدرك بعض وقت الصلاة، فهذا يذكره ابن قدامة تنزلاً منه.