[الرد على من يحتج بما رواه موسى بن عقبة في جواز اتخاذ المساجد على القبور]
أما ما يتشدق به بعضهم ويقول: أين أنتم من الحديث الذي رواه موسى بن عقبة بإسناد صحيح أن أبا بصير لما مات بنى أبو جندل على قبره مسجداً.
فقد كذبوا في ذلك، فلعنة الله على الكذابين، قالوا: بإسناد صحيح، ولا يوجد إسناد لهذا الحديث، بل هو أبعد من أن يرويه موسى بن عقبة عن الزهري ويذكر ذلك، ولم يشهد الزهري ذلك، ولم يشهد هذه القصة التي حدثت لـ أبي جندل وأبي بصير، هذه كانت في صلح الحديبية، وصلح الحديبية كان في ذي القعدة من سنة ست، ثم هاجر أبو جندل وجاء للنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بصير، فلما حدثت القصة المعروفة راح أبو جندل وأبو بصير عند مكان اسمه سيف البحر بين مكة وبين المدينة يقطعون الطريق على أهل مكة، فيذكر الإمام موسى بن عقبة عن الزهري: أن أبا بصير لما مات في هذا المكان دفنه أبو جندل وأقام عنده مسجداً، فـ الزهري ذكر ذلك، لكن من أين أتى به؟ والزهري حين يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم هناك اثنان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا الحديث معضل، والمعضل من أنواع الحديث الضعيف، وهذا الحديث الذي يقولون عنه: بإسناد صحيح، ليس له إسناد إلا هذا، فـ موسى بن عقبة يقول: قال الزهري كذا، فذكر عن الزهري وأطلقه هكذا مرسلاً.
ثم لو فرضنا صحة ذلك، فهل فعل ذلك أبو جندل بإذن النبي صلى الله عليه وسلم؟ كان بعيداً عن النبي صلى الله عليه وسلم هو عند سيف البحر خائفاً أن يأتي المدينة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع لأهل مكة، فلذلك كان بعيداً عند سيف البحر، وفعل ذلك بغير مشورة من النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا لو صح هذا الشيء.
ولو فرضنا أنه كان مشروعاً في ذلك الحين فهو منسوخ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته وقبل وفاته بخمسة أيام حرم ذلك ومنعه.
وإذا رأيتم مثل هذا الحديث مع الأحاديث الصحيحة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي يحرم فيها بناء المساجد على القبور ثم يخرج من يزعم للناس أن هؤلاء كذابون، وهؤلاء أماتوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا مانع من اتخاذ الأضرحة في القبور، من أولى بهذه الدعوة؟ من قال خلاف ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وأفتى للناس بذلك، أم الذي يتابع هدي النبي صلى الله عليه وسلم ويحرم ما حرمه النبي صلوات الله وسلامه عليه، ففي الحديث: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بناء المساجد فوق القبور).
أما ما يتشدقون به ويقولون: أليس القرآن يقول: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:٢١]؟ فنقول: إنه لم يقل: قال الأنبياء، ولم يقل: قال الصالحون، بل قال: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} [الكهف:٢١] وهم الحكام، ومنذ متى كان الحكام لهم رأي في فقه أو في غير فقه، فهم لا يرجعون بعقولهم، فقد أحب الحاكم أن يبني عليه مسجداً ففعل هذا الشيء.
ولو فرضنا أن هذا كان جائزاً في عصورهم فقد نسخ بشرعنا وبتحريم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فلا حجة لأحد أبداً أن يقول: يجوز اتخاذ الأضرحة واذهبوا إلى القبور وزوروها، ويذهب الناس لزيارة الأضرحة ويلفون حولها ويطوفون كما يطوفون بالكعبة ويسألونها من دون الله عز وجل، فهذا شرك وقد نهانا ربنا سبحانه وتعالى عن الشرك فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨].
ففي الدعاء لا تدع ربك فقط، وليس لك أن تدعو غيره سبحانه وتعالى، وإذا أردت التوسل فتوسل إلى الله عز وجل بما هو مشروع في الدين، فتوسل إليه تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وتوسل إليه بالعمل الصالح، ومن العمل الصالح حبك للأنبياء وللصالحين.
وتوسل إلى الله عز وجل بدعوة الصالحين لك، أما أن تتوسل بأموات، أو بقبور، أو بمشاهد، فهذا ما أنزل الله به من سلطان، بل قد حرمه النبي صلى الله عليه وسلم كما في الأحاديث الصحيحة، ويقال لهذا الذي يقول: أين أخفيتم هذا الحديث: بل أنت أظهر لنا إسناده الذي تفتريه وتزعم أنه إسناد صحيح ولا حول ولا قوة إلا بالله.