للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأيام التي يستحب صيامها]

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

ذكرنا في الحديث السابق أن الله سبحانه وتعالى يحب من عبده أن يتقرب إليه بالنوافل، بعد أن يتقرب بأحب شيء إليه وهي الفرائض، فإذا تقرب إليه بالنوافل بعد الفرائض أحبه الله تبارك وتعالى.

فالصلاة مثلاً فيها الفريضة وفيها النافلة، وكذلك الصوم فيه الفريضة، وهو صوم رمضان الذي أوجبه الله سبحانه، وفيه صوم النافلة، فما استطعت منه بغير أن تشق على نفسك أو أن تضيق عليها تضييقاً لا يطاق فإذا استطعت أن تصوم يوماً في كل شهر فحسن، أو يومين أو ثلاثة فحسن أيضاً، وإذا صمت ثلاثة أيام من كل شهر فهذا صوم الدهر، ولكن واظب إن استطعت على ذلك، فذلك من أفضل ما تصوم، أي: أيام البيض وهي ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر.

وهناك صيام آخر، وهو صوم عرفة وصوم عاشوراء وتاسوعاء، وصيام ست من شوال، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم الإثنين والخميس، ويذكر أن الله عز وجل يرفع فيها الأعمال إليه، فهذا من الصوم المستحب.

كذلك يستحب الإكثار من الصيام في شهر الله المحرم، وفيه يوم عاشوراء يكفر الله عز وجل به ذنوب سنة، ودليل استحباب الإكثار من الصوم في محرم ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل).

وكذا شهر ذي الحجة أي: في أوله عشرة أيام يستحب فيها العمل الصالح، ومن ذلك الصيام.

إذاً: فكل شهر من الشهور يستحب ألا يغفل المسلم عن صيام فيه، ولو يوماً واحداً، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما يحث على صوم شهر محرم، كان كذلك يكثر من صوم شعبان، وشعبان بين رجب وهو شهر من الأشهر الحرم -وكانت العرب تعظمه كثيراً- وبين شهر رمضان، والمسلمون يعرفون فضله، بإنزال الله عز وجل فيه القرآن وغير ذلك، فبين هذين الشهرين شهر يغفل عنه الناس وهو شعبان، وهو شهر عجيب، ترفع فيه الأعمال إلى لله عز وجل، كما أن يوم الإثنين والخميس ترفع فيهما الأعمال، فكذلك هذا الشهر كأن أعمال العام ترفع فيه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الصوم فيه.

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهراً أكثر من شعبان) فأحياناً كان يصوم شعبان كله.

وعرفنا الحكمة والعلة من تأخير السيدة عائشة قضاء صوم رمضان إلى شبعان؛ وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان كله، فإذا أرادت أن تصوم الأيام الواجبة عليها، وهي مطمئنة أن النبي صلى الله عليه وسلم لن يحتاج إليها في النهار، صامت في هذا الشهر، قالت: وكان يقول عليه الصلاة والسلام: (خذوا من العمل ما تطيقون)، وإذا ذكرنا صيام النافلة هنا، فليس المعنى أن كل صيام النافلة ينبغي أن تفعله، بل خذ من العمل ما تطيقه: (وأحب العمل إلى الله أدومه وإن قل) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فطالما أنك مواظب على شيء من صوم النافلة، كأن تواظب على صيام ستة من شوال في كل عام، أو على صيام يوم عاشوراء ويوم عرفة، أو صيام ثلاثة أيام من كل شهر مطلقة أو مقيدة، فكل ذلك حسن، فما استطعت من الصوم من غير أن تشق على نفسك، فافعل اقتداء بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله أو يحث عليه على جهة الندب، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: (خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا)، قوله: فإن الله لا يمل حتى تملوا، أي: أن الإنسان إذا مل من العمل انقطع عنه الثواب، فقد يقول الإنسان: أنا تعبت، ولا ينبغي أن يقول: أنا مللت؛ لأن العبادات لا تورث الملل، وقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم عمن عجز أو كسل، بالملل، فجعله كأنه مل، مع أن الإنسان لم يحصل له ملل، لأنه يحب العبادة، لكن لم يستطع أن يفعلها لمرض، أو شغل، أو غيره، فلذا يكون معنى قوله: تملوا في الحديث: انقطاع العمل بسبب أو بغير سبب، فيكون معنى الحديث: إذا انقطعت عن العمل، منع عنك الثواب، إذ الجزاء من جنس العمل، وقوله: (الله لا يمل حتى تملوا)، ليس معناها أن يثبت صفة الملل لله عز وجل، حاشاه سبحانه وتعالى، ولكن هذا من المشاكلة اللفظية، فالأسلوب أسلوب نفي، والمعنى: إذا انقطعت عن العمل انقطع عنك الثواب، أو إذا انقطعت عن العمل، فقد حرمت نفسك من الثواب.

وقد كانت أحب الصلاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما دوم عليها، وإنما كانت الصلاة المداوم عليها حبيبة إليه صلى الله عليه وسلم؛ لأنها أحب العمل إلى الله، فقد جاء في حديث آخر: (أحب الأعمال إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل)، فما واظب عليه العبد أحبه الله، وفي الحديث دليل على أن الإنسان يحب العمل، ولذلك جاء في الحديث: (من أنفق زوجين نودي من أبواب الجنة، يا عبد الله هذا خير).

وقوله: (أنفق زوجين)، كأنه من باب قول الإنسان: دخلوا مثنى مثنى، وليس المعنى اثنين واثنين فقط، فقوله: (زوجين) أي: كأنك تري من نفسك أنك تحب هذا العمل، أنفقته وكررته، فلما داومت عليه كان ذلك دليل على أنك تحب هذا العمل، حينها تناديك أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير، ادخل من هذا الباب من أبواب الجنة، فإذا كنت من أصحاب الصدقة دخلت من باب الصدقة، وإذا كنت من أصحاب الصوم دخلت من باب الريان، وإذا كنت من أصحاب القرآن دخلت بفضل الله عز وجل ورحمته من باب القرآن.

وجاء في الحديث: أن عائشة رضي الله عنها قالت: (وكان إذا صلى صلاة داوم عليها صلى الله عليه وسلم)، وفي حديثها عن صومه صلى الله عليه وسلم ذكرت منه أنه كان يصوم شعبان، وفي رواية: (كان يصوم شعبان إلا قليلاً).