للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اختلاف العلماء في أيهما أفضل في السفر الصوم أو الفطر]

اختلف العلماء في أيهما أفضل: الصوم في السفر أو الإفطار؟ والراجح في ذلك: هو أن الأيسر عليه يفعله سواء الصوم أو الإفطار.

روى البخاري ومسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة)، والمعنى أن هذا الصوم كان فريضة في رمضان، فالذي كان صائماً هو النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة وبقية الصحابة كانوا مفطرين.

وعن جابر كما في الصحيحين: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلل عليه فقال: ما هذا؟ قالوا: صائم، فقال: ليس من البر الصوم في السفر)، وهذا الحديث لا يؤخذ الجزء الأخير منه من غير نظر إلى سببه، فلا يقال: إن قوله: ليس من البر الصوم في السفر تعتبر قاعدة عامة؛ لأنه إنما قال ذلك نتيجة سبب من الأسباب، فلا ينبغي أن يلغى السبب ويؤخذ بالنتيجة، فالنبي صلى الله عليه وسلم، صام في السفر، ولكنه رأى صلى الله عليه وسلم رجلاً صائماً في السفر وحوله أناس مزدحمين كل يقدم له خدمة، فقال: (ما هذا؟) فقالوا: صائم.

إذاً: كان القوم مسافرين، والسفر قطعة من العذاب، وكل واحد مشغول بنفسه، وهذا الصائم شغلهم وضيق عليهم بحيث وصل إلى مشقة لا يقدر معها على الصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس من البر الصيام في السفر)؛ لأنه ليس من التقرب إلى الله أن تشق على صاحبك وتجعل الناس يخدمونك.

إذاً هذا الحديث فيما إذا كان الصائم سيشق على نفسه وعلى رفقته.

وعن أنس -كما في الصحيحين- قال: كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، فلا الصائم يعيب على المفطر، ولا المفطر يعيب على الصائم، فطالما الصائم لا يتعب غيره فلا بأس أن يصوم، قال الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:١٨٥]، فالأفضل هو الأيسر، والله يريد بنا اليسر.

وأيضاً عن ابن عمر -كما في المسند مرفوعاً-: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته)، فالله يكره من عبده أنه يأتي المعصية، كذلك يحب من عبده أن يأتي الرخصة.

وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام -والمعنى أن الرجل كان كثير الصيام في غير رمضان، فلما جاء عليه شهر رمضان سأل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك- فخيره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر)؛ لأنه إذا أفطر في رمضان لزمه القضاء بعد رمضان، كسائق السيارة من الإسكندرية إلى القاهرة فهو مسافر دائماً، فله أن يفطر في رمضان، وله أن يصوم، وإذا أفطر لزمه القضاء بعد رمضان، ولعله يكون مسافراً أيضاً، فالذي يتيسر له من الأمرين يفعله سواء كان الصوم أو الإفطار.

كذلك في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه الناس، فأفطر صلى الله عليه وسلم)، فظل صائماً إلى أن وصل إلى عسفان، وبعد ذلك بلغه أن الناس شق عليهم الصوم، فأفطر صلى الله عليه وسلم أمام الناس.

وكان ذلك في فتح مكة في رمضان.

وفي رواية: (أن ذلك كان بعد العصر).

إذاً النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقتدي به الناس أفطر بعد العصر وإن كان الوقت قد قرب من المغرب، ولكنه وجد أن ذلك سيشق على الناس فأفطر صلوات الله وسلامه عليه حتى يفطر الناس، فكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: قد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر -يعني في السفر- فمن شاء صام ومن شاء أفطر.

ويذكر الحافظ ابن حجر مذاهب العلماء في الصوم أو الإفطار في السفر، فأكثرهم كـ مالك والشافعي وأبي حنيفة على أن الصوم أفضل لمن لم يشق عليه؛ لأنه إذا صام لا يتعلق بذمته.

وقال كثير من العلماء: الفطر أفضل؛ عملاً بالرخصة، فإذا كان الإنسان لم يرفض الرخصة أصلاً ولكن خاف ألا يتمكن من القضاء، والأداء سهل عليه كان الصوم أفضل له.

وقال آخرون: هو مخير بين الأمرين، وقال آخرون: أفضلهما أيسرهما، وهذا الأرجح، فإذا تيسر الصوم صام، وإن شق الصوم أفطر، وإن كان الصيام أيسر كمن يسهل عليه الأداء ويشق عليه القضاء بعد ذلك فالصوم في حقه أفضل، وكثير من الناس يسهل عليهم الصيام، فإذا دخل رمضان اعتاد على الصيام، وصام مع الناس وارتاح من القضاء.

وآخر يشق عليه وهو مسافر أن يصوم، فقد يمرض أو يعطش عطشاً شديداً لا يقدر معه على أن يقضي حاجته في سفره، فهذا الأفضل في حقه أن يفطر؛ حتى يتمكن من قضاء حاجاته، ثم يقضي بعد ذلك.

فالفطر أفضل لمن اشتد عليه الصوم وتضرر به كما ذكرنا، كذلك من ظن أنه رغب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم ورفض الرخصة، فالأفضل أن يأخذ بالرخصة التي رخصها الله عز وجل له.

إذاً: الذي قبل الرخصة وصام له ذلك، والذي قبل الرخصة وأفطر له ذلك، لكن الذي رد الرخصة ورفضها فالأفضل في حقه أنه لا يعرض عن رخصة رخصها الله له ولو بالقول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من رغب عن سنتي فقد رغب عني، أو فليس مني).

كذلك من خاف على نفسه العجب أو الرياء، فقد يكون مسافراً مع الناس، والكل مفطر فيخاف أن يصيبه العجب من كلام الناس، فالأفضل في حقه أنه يبتعد عن الرياء وأن يفطر، وغيره يجوز له أن يصوم ويجوز له الإفطار كما قدمنا.

روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أكثرنا ظلاً الذي يستظل بكسائه، وأما الذين صاموا فلم يعملوا شيئاً، وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب وامتهنوا وعالجوا).

فالصائمون في تلك الحالة فائدة صيامهم مقتصرة عليهم لا تتعدى إلى غيرهم، لكن الذين أفطروا قاموا وخدموا الجميع وأحضروا الطعام، وبعثوا الركاب، وامتهنوا أي: قاموا بالمهنة وبقضاء حوائج المسافرين، فكان نفعهم متعدياً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذهب المفطرون اليوم بالأجر).

فإذا كان الصائمون لهم أجر على قدر صيامهم، فالأجر العظيم أخذه المفطرون الذين قاموا بأمر السفر، ويسروا على غيرهم، وقاموا بما طلب منهم، فكان لهم الأجر العظيم، فكأنه إذا قورن أجر الصائم بأجر هؤلاء في تعبهم وامتهانهم لكان أجر الصائم قليلاً بالنسبة لأجر ذلك المفطر، وليس معنى ذلك أن الصائم ليس له أجر، بل له أجر عظيم، ولكن أجر أولئك الذين قاموا بالخدمة أعظم.

أيضاً أخرج مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام -أي: في فتح مكة في رمضان- فنزلنا منزلاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا -فكانت رخصة- فمنا من صام ومنا من أفطر).

ومعنى (إنكم قد دنوتم) أي قربتم من العدو، فالفطر أقوى لكم؛ حتى تقدروا على قتال أعدائكم، فمنهم من صام ومنهم من أفطر، قال: (فنزلنا منزلاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم مصبحوا عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا، فكانت عزيمة) أي: أن الصبح هو موعد القتال، وربما يصعب عليهم القتال وهم صائمون، فأمرهم بالإفطار صلى الله عليه وسلم؛ لأن الفطر أقوى لهم.

ففي المرة الأولى كانت رخصة؛ لأن العدو مازال بعيداً فلم يعزم عليهم، لكنهم لما أصبحوا لقتال العدو قال لهم: أفطروا، قال: (فأفطروا إلا قليلاً منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -لما سمع أن فلاناً وفلاناً ما أفطروا-: أولئك العصاة) وهذا دليل على أن أمره لهم كان عزيمة.

فقد كانوا ذاهبين إلى مكة مكان الكفر ليحولوه إلى بلد للإسلام، وقد لا يقدرون مع الصوم على ذلك، فعليهم أن يفطروا، وإذا أفطر أحدهم وقاتل حتى قتل فإنه في هذه الحالة لم يتمكن من القضاء، فما عليك شيء، ولا يصوم عنه وليه، فكان الأفضل لهؤلاء أن يفطروا؛ لأنه أقوى لهم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عمن لم يفطروا: (أولئك العصاة).

ونسبته صلى الله عليه وسلم الصائمين إلى العصيان؛ لأنه عزم عليهم أن يفطروا؛ لأنهم مصبحوا العدو، فأصبحوا صائمين.

وكذلك الحديث الذي رواه النسائي عن جابر بلفظ: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل في ظل شجرة يرش عليه الماء فقال: ما بال صاحبكم هذا؟ قالوا: صائم يا رسول الله، فقال: إنه ليس من البر أن تصوموا في السفر، وعليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوه) فقد قال هذا الكلام لسبب معين فما كان مثله كان كذلك.