[شرح حديث: (من رأى منكم الليلة رؤيا؟)]
كذلك من الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه وقال: من رأى منكم الليلة رؤيا)، فكان يسألهم صلى الله عليه وسلم ويستبشر بالرؤيا الصالحة، وكان يخبر أنه إذا انقطع الوحي من السماء بقيت المبشرات، قالوا: (وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له)، فكان يسأل أصحابه: هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا؟ فكان أصحابه من رأى منهم رؤيا يخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي يوم من الأيام أصبح صلى الله عليه وسلم فسألهم كما كان يسألهم ولم يرد عليه أحد، فقال: (لكني رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة)، أخذا بيدي النبي صلى الله عليه وسلم وخرجا به إلى بيت المقدس أو الأرض المقدسة، قال: (فإذا رجل جالس ورجل قائم بيده كلوب من حديد) رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وسنعلم في آخر الحديث أنه عذاب البرزخ، يعذب الله عز وجل أناساً في قبورهم بهذا الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم، فهم معذبون في قبورهم، لم يعذبوا؟! وما الذي عملوه؟! لننظر في هذا الحديث، قال: (فإذا رجل جالس ورجل قائم بيده كلوب من حديد، فيدخل ذلك الكلوب في شدقه حتى يبلغ قفاه ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك، ويلتئم شدقه هذا فيعود فيصنع مثله، قلت: ما هذا؟ قالا: انطلق).
وهنا في هذه الصورة رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً جالساً على الأرض وآخر واقف عليه يعذبه، فهو ماسك بيده كلوباً من حديد، والكلوب: سيخ معقوف، شكله مثل الخطاف، فيجعل السيخ بداخل فمه فيشرشر شدقه حتى يبلغ إلى قفاه، ويفعل بالشدق الآخر مثل ذلك، فلا ينتهي من الثاني حتى يكون الأول قد التأم فيرجع ويفعل به كذلك، وهذا عذاب شديد جداً حيث يستمر يفعل به هذا إلى يوم القيامة، فيا ترى ماذا عمل هذا الإنسان؟! لا بد أنه كان يعمل شيئاً.
قال صلى الله عليه وسلم: (فأتينا على رجل مضطجع على قفاه، ورجل قائم على رأسه بفهر أو صخرة، فيشدخ به رأسه، فإذا ضربه يتدهده الحجر فينطلق إليه ليأخذه فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه، ويعود كما هو، فعاد إليه فضربه، قلت: من هذا؟، قالا: انطلق)، وهذا رجل آخر نائم مضطجع على قفاه في الأرض، ورجل قائم يعذبه، ومعه حجارة، فيمسك بالحجارة ويضرب هذا الإنسان في رأسه حتى يشقه، ويذهب ليحضر الحجر فلا يرجع حتى يلتئم مرة ثانية، ولا يزال هكذا في عذاب شديد، فلو أن إنساناً في الدنيا ضرب ضربة بالحجر في رأسه لجاء له ارتجاج في المخ وذهب شعوره فلا يحس مهما ضرب بعد ذلك، أما أن يضرب ويرجع حياً ليضرب مرة ثانية فهذا عذاب شديد، نسأل الله العفو والعافية، عذاب شديد جداً لا يزال يفعل بهذا الإنسان ذلك إلى يوم القيامة.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع يتوقد ناراً) فرن مثل الهرم، أعلاه ضيق وأسفله واسع يتوقد ناراً، قال: (فإذا اقترب ارتفعوا) يعني: هذا الفرن فيه أناس تقرب منهم النار وترفعهم مثل القدر الذي فيه لحم عياذاً بالله! قال: (حتى يكادوا أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا فيها، وفيها رجال ونساء عراة) أي: بداخل هذا الفرن التنور رجال ونساء عراة، (فقلت: من هذا؟ قالا: انطلق) لم يخبروه وسنعرف بعد ذلك.
قال صلى الله عليه وسلم: (فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه الحجر، فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟ قالا: انطلق)، وهذه صورة أخرى من صور العذاب، أي: عذاب البرزخ، فهذا إنسان يسبح في نهر من دم، حتى إذا وصل إلى شط النهر وأراد أن يخرج فيجد الذي ينتظره على شط النهر ومعه حجر، فيقذفه بالحجر في فمه، فيرجع مرة أخرى إلى مكانه، ولا يزال يسبح في هذا النهر هكذا، حتى إذا وصل بدلاً من أن يساعده يرميه بحجر فيرده كما كان والعياذ بالله! قال صلى الله عليه وسلم: (فانطلقنا حتى انتهينا إلى روضة خضراء) هذا كله في الرؤيا المنامية، ورؤيا الأنبياء حق، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم وصلوا إلى روضة، وهي بستان عظيم، فهي روضة عظيمة خضراء، قال: (فيها شجرة عظيمة، وفي أصلها شيخ وصبيان)، أي: تحت الشجرة شيخ كبير ومعه كثير من الصبيان، (وإذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها، فصعدا بي في الشجرة وأدخلاني داراً لم أر قط أحسن منها، فيها رجال شيوخ وشباب ونساء وصبيان، ثم أخرجاني منها فصعدا بي الشجرة فأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل، فيها شيوخ وشباب، فقلت: طوفتما بي الليلة فأخبراني عما رأيت)، أي: أخبروني ما هذا الذي رأيته؟ (قالا: نعم، نخبرك بالذي رأيت، أما الذي رأيته يشرشر شدقه فهو الرجل كان يحدث بالكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق) يحدث الناس أنه حصل الشيء الفلاني، والناس يحدثون إشاعة بين الناس، وبعد ذلك يظهر أنه كذاب، فهذا الكذاب هذه حاله في البرزخ في عذاب القبر، حتى تقوم القيامة فيرى سبيله بين يدي الله عز وجل، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (فيصنع به إلى يوم القيامة) أي: هذا العذاب لا يرفع عنه حتى يوم القيامة.
قالا: (والذي رأيته يشدخ رأسه رجل علمه الله القرآن) يقرأ القرآن ويحفظه لكنه ينام عنه بالليل، لا يقوم الليل أبداً، ويضيع صلاة الفجر، ويضيع صلاة العشاء، فليس على باله هذا الأمر، وقد حفظ القرآن ليقال: حافظ وعالم.
قالا: (ولم يعمل فيه بالنهار)، فيكون ليله نائماً ونهاره لا يعمل بهذا القرآن، فهو ترك هذا القرآن وراءه ظهرياً، وليس معنى الحديث: أن الذي ينام الليل ولا يقومه آثم، ولكن هذا جمع الاثنين: فلا هو استفاد من القرآن ليرتفع به الدرجات يوم القيامة فقام من الليل، ولا هو واظب على صلاة الليل والعشاء وصلاة الفجر، فلم يفعل ذلك، فترك صلاة الجماعة، وترك المواظبة على الصلاة، وهو تارك للقرآن ليس له في أمر القرآن شيء، لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، بل هو موافق لأصحاب المنكر في منكراتهم، فيفعل به ذلك إلى يوم القيامة، فاحرص على أن تتعلم القرآن لله عز وجل، وتعمل به، وقم لله سبحانه ولو بـ (قل هو الله أحد).
ثم قالا: (والذين رأيتهم في الثقب فهم الزناة) الذين رأيتهم في مثل التنور الذي أعلاه ضيق وأسفله واسع، وتأتي عليهم النار من تحت فترفعهم إلى فوق، وإذا خمدت نزلوا، فهؤلاء هم الذين يقعون في الزنا والعياذ بالله، والزنا من أخبث الخبائث، وأفحش الفواحش، فهذا عذاب أصحابه في قبورهم حتى تقوم الساعة فيكون مصيرهم إلى النار والعياذ بالله! ثم قالا له: (والذي رأيته في النهر فهو آكل الربا) الإنسان الذي يأكل الربا ويتعامل بالربا، فهذا حاله في قبره والعياذ بالله! فهو يعذب هذا العذاب، حيث يسبح في نهر من دم، ويقطع النهر كله حتى يتعب ويكاد أن يهلك، فهو ميت أصلاً، ولكن الله عز وجل يجعل له حياة يتذوق فيها العذاب، فإذا به يعذب عذاباً في البرزخ، وإذا أراد أن يخرج وجد هذا القائم على النهر فيلقمه في فمه حجراً فيرده مرة أخرى إلى النهر.
ثم قالا: (والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- والصبيان حوله فأولاد الناس) وكلمة (الصبيان) هنا ليس معناها أنهم ذكور فقط، ولكن هذا من باب التغليب ومعناه: كل أولاد الناس، فكل من مات وهو لم يبلغ الحلم من أولاد الناس، ولم يقل: (المسلمين) بل كل أولاد الناس الذين لم يبلغوا الحلم وماتوا وهم أطفال صغار يكونون مع إبراهيم في هذا المكان.
ورأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قريباً من الشجرة بين يديه نار يوقدها، وهذه نار جهنم يشعلها لأصحابها نسأل الله العفو والعافية، فقالا: (والذي يوقد النار مالك خازن النار).
والدار الأولى يقول صلى الله عليه وسلم (فصعدا بي الشجرة وأدخلاني داراً لم أر قط أحسن منها) صعدا بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى الشجرة، فرأى داراً لم ير أبداً داراً مثلها، وفيها رجال وشيوخ وشباب ونساء وصبيان، قال: (فقلت: من هؤلاء؟ فقالا: إنها الجنة)، دار عامة للمؤمنين، ففيها هؤلاء جميعهم من رجال وشيوخ وشباب ونساء وصبيان.
ثم علا به الملك داراً هي أعلى من الأولى، قال: (فصعدا بي الشجرة فأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل فيها شيوخ وشباب) ولم يذكر الصبيان، وهذه الدار الأولى كانت عامة للجميع، لكن هذه الأخرى هي لمن عمل أكثر واجتهد في عبادة الله سبحانه، لمن وصل إلى درجة عالية، ففيها شباب وفيها شيوخ، قال: (فقالا: وأما هذه الدار فدار الشهداء) الذي قتل شهيداً يكون فيها، فكأن هذه الدار الأغلب فيها الذين هم من الشيوخ والشباب المجاهدين في سبيل الله عز وجل.
قال: (وقال الملكان: وأنا جبريل وهذا ميكائيل، وقالا لي: ارفع رأسك، قال: فرفعت رأسي فإذا فوقي مثل السحابة) فقد رأى دار عامة المؤمنين، ودار الشهداء، وبعد ذلك رأى شيئاً مثل السحابة فوق الشجرة، فهي سحابة عالية جداً، فقالا للنبي صلى الله عليه وسلم (ذاك منزلك) فالنبي صلى الله عليه وسلم في أعلى ما يكون من المنازل، نسأل الله عز وجل أن يرزقنا رفقته في الجنة صلوات الله وسلامه عليه.
قال: (قلت: فدعاني أدخل منزلي) يقول هذا في الرؤيا، قال: (فقالا: إنه بقي لك عمر لم تستكمله) أي: أنت لم تستكمل عمرك، فلو استكملت عمرك أتيت منزلك.
فهذا الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم هو ما يكون في البرزخ من عذاب لأهل العذاب، ومن نعيم لأهل النعيم، فالنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا بذلك.
والشاهد من هذا