من الأحاديث العظيمة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث رواه الإمام أحمد وقد ذكرنا جزءاً من هذا الحديث في الصحيحين، ولكن رواية الإمام أحمد فيها زيادة عظيمة وجميلة، فالحديث رواه أحمد عن بريدة قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: (تعلموا سورة البقرة؛ فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة، قال: ثم مكث ساعة ثم قال: تعلموا سورة البقرة وآل عمران، فإنهما الزهراوان، يظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف، وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة)، الذي يحفظ القرآن ويعمل بالقرآن ويحب القرآن يلقاه القرآن حين ينشق قبره، ويخرج من قبره والقرآن ينتظره، قال:(يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني؟)، القرآن يسأل صاحبه الذي كان يحفظه ويعمل به، ويقوم به بالليل وبالنهار فيقول:(هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك)، هو خارج من قبره للموقف العظيم والقرآن يستقبله أول ما يخرج فيقول له:(هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر وأسهرت ليلك) أي بشارة أعظم من ذلك؟ وأي طمأنينة وأي رجاء يكون في قلب الإنسان الذي ينتظره القرآن وهو قائم من قبره ليأخذه على هيئة رجل شاحب؟ كما أنه في الدنيا أتعب نفسه يقابله على هذه الهيئة، فأنت قد تعبت في الدنيا فأنا الآن مثلك، فيأخذ صاحبه.
قال:(أنا صاحبك الذي أظمأتك في الهواجر)، أي: أخذت مني الصيام فصمت لله عز وجل فظمئت بالهواجر، وتلوتني حتى جف لسانك من كثرة التلاوة والقراءة، قال:(وأسهرت ليلك)، قمت بالليل تستذكرني وقمت بالليل تقرؤني وتصلي لله عز وجل بي، قال:(وإن كل تاجر من وراء تجارته -أي: كل تاجر يحرس تجارته- وإنك اليوم من وراء كل تجارة)، أنت أعظم تاجر، فقد كنت تجارتك، وتجارتك كانت مع الله سبحانه، وكل تاجر من وراء تجارته يجمع تجارته من أجل ألا تضيع التجارة، فأنت أعظم التجار، فتعال إذاً وخذ رأس مالك، وخذ ربحك معك وهو القرآن؛ لتقدم على الله سبحانه وتعالى به.
قال:(فيعطى الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذه؟)، انظر للفضل العظيم! فاحفظ القرآن تنتفع وينتفع والداك أبوك وأمك، وينتفعان بحفظك أنت للقرآن، فحافظ القرآن يعطيه الله عز وجل الملك بيمينه فيصير من ملوك الجنة، والجنة فيها ملوك، قال:(والخلد بشماله)، والخلد أي: أنك مخلد في الجنة وأنت ملك من ملوك الجنة، قال:(ويوضع على رأسه تاج الوقار ويكسى والداه حلتين)، إذاً: ينعم الله عز وجل على أبيه وعلى أمه بأن يكسوهما حلتين من حلل الجنة (لا يقوم لهما أهل الدنيا)، أي: لو أنفق أهل الدنيا كل ما معهم من أجل أن يشتروا هاتين الحلتين ما استطاعوا.
قال:(فيقولان: بم كسينا هذه؟)، أي: لم نعمل عملاً من أجل أن نأخذ عليه هذا الشيء (فيقال: بأخذ ولدكما القرآن)، فإذا أردت أن تكرم أباك وأمك فاحفظ القرآن وراجعه واسترجعه، وإياك أن تنسى القرآن، فإن من أعظم ما تبر به والديك أن تحفظ كتاب الله سبحانه وتعالى.
وجاء في رواية عند الطبراني لهذا الحديث قال:(فيقولان: يا رب! أنى لنا هذا؟)، كيف وصلنا لهذه الدرجة وهذه الحلل العظيمة؟ (فيقال: بتعليم ولدكم القرآن)، لقد علمتما ولدكما القرآن، أدخلتماه مدرسة ليحفظ القرآن، وأرسلتماه إلى المسجد ليحفظ القرآن، وساهمتما في تحفيظه وشجعتماه على ذلك.
يقول في الحديث:(ثم يقال لصاحب القرآن: اقرأ واصعد)، وفي رواية:(اقرأ وارق في الدرجات)، وفي رواية:(في درجة الجنة وغرفها)، فهو في صعود ما دام يقرأ هذاً كان أو ترتيلاً، يقرأ بسرعة أو يقرأ ببطء، أو يقرأ مركزاً أو يقرأ مراجعة مع القراءة السريعة، فيقال (اقرأ وارق في الدرجات ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلك عند آخر آية معك)، قال تعالى:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}[المطففين:٢٦]، فتنافسوا في ذلك، تنافسوا في حب الله سبحانه وفي حب القرآن وقراءته والتمسك به، فاحفظ القرآن ولا تتركه ولا تهجره، اقرأ القرآن ليل نهار يحفظك القرآن العظيم بحفظك له.