للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قيام النبي صلى الله عليه وسلم في الليل]

جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه) أي: حتى تتشقق قدماه صلى الله عليه وسلم, وفي حديث آخر (حتى تتورم قدماه) واتفق الحديثان في المعنى، تشققت قدماه من طول القيام, وتورمت قدماه من طول القيام, ومعلوم أن الإنسان إذا وقف فترة طويلة فالدم ينزل من رجليه, وتنتفخان من طول قيامه, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ويستعذبه صلوات الله وسلامه عليه, فهو القائل صلى الله عليه وسلم: (جعلت قرة عيني في الصلاة) قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟) يعني: أنت لست محتاجاً إلى أن تقوم الليل، فربنا قد غفر لك الذي فات, والذي سيأتي كذلك مغفور, وحاشا له صلى الله عليه وسلم أن يقع في الذنوب؛ لأن ربنا سبحانه عصمه صلوات الله وسلامه عليه, ومع ذلك فإنه يقوم لهدف آخر, حتى وإنْ غفر الله له ذنوبه فهو يشكر ربه على الذي أعطاه، فقد قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً) صلوات الله وسلامه عليه، هذا النبي صلى الله عليه وسلم يستحي من ربه, إذا كان لم يغفر الله له ذنبه فسيقوم إلى أن يغفر له, وإذا غفر له ذنبه فسيقوم حتى يرضى الله سبحانه وتعالى عنه, وحتى يوفي الحق بشكر الله على هذا الصنيع العظيم من ربه سبحانه.

قالت: (فلما كثر لحمه صلى جالساً) ليس معناه: أنه سمن عليه الصلاة والسلام, ولكن المعنى: أنَّه كَبُر في السن وصار عظمه لا يقدر على أن يحمل جسمه, فهذا معنى قول السيدة عائشة رضي الله عنها: (فلما كثر لحمه) فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن سميناً، بل كان يذم السمن عليه الصلاة والسلام, إنما المعنى أنه ثقل جسده صلى الله عليه وسلم على عظمه, فلا يستطيع عظمه أن يحمل جسده في هذا القيام الطويل الذي كان يقومه, فقد كان يقوم الليل أحياناً بالسبع الطوال: البقرة وآل عمران والنساء والأعراف والأنعام والأنفال وبراءة، فقد كان يقوم النبي صلى الله عليه وسلم ليلهُ لله عز وجل بهذه السور جميعها، قالت: (فلما كثر لحمه صلى جالساً عليه الصلاة والسلام, فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع) أي: كان يستمر ليلاً طويلاً قائماً, ثم يجلس ويصلي صلاة طويلة وهو جالس, فإذا بقي له أربعون أو ثلاثون آية, قام فقرأها وهو قائم, ونحن نقرأ في الصلاة ثلاثين آية أو أربعين آية ثم نتعب, والنبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي السبع الطوال يعني: كان يقرأ, ألف آية, ونحن إذا أردنا أن نصلي بألف آية نبدأ من (تبارك) إلى آخر المصحف؛ لأنَّ ذلك أسهل, وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يأخذ من أول القرآن إلى أن يصل إلى براءة والأنفال صلوات الله وسلامه عليه, فيقرأ قراءة متأنية ومرتَّلة, ويستمتع بها, ويتقرب بها إلى الله عز وجل, وإذا مر بآية رحمة وقف وسأل الله من رحمته, وإذا مر بآية عذاب وقف وتعوذ بالله من عذابه.