فَإِنْ طَعَنَ طَاعِنٌ فِيهِمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيل وَنَابَذَ الْإِسْلَامَ.
ــ
[كشف الأسرار]
ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قِصَّةِ بِرْوَعَ أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي وَكَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى فِي رِسَالَتِهِ الْمَشْهُورَةِ اعْرِفْ الْأَشْبَاهَ وَالنَّظَائِرَ، ثُمَّ قِسْ الْأُمُورَ بِرَأْيِك وَرَاجِعْ الْحَقَّ إذَا عَلِمْته؛ فَإِنَّ الرُّجُوعَ إلَى الْحَقِّ أَوْلَى مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْآثَارِ بِحَيْثُ لَا تُحْصَى كَثْرَةً فَلَمَّا ثَبَتَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْعَمَلُ بِالرَّأْيِ وَلَمْ يَظْهَرْ عَنْ غَيْرِهِمْ إنْكَارٌ عَرَفْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى ذَلِكَ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ وَكَفَى بِإِجْمَاعِهِمْ حُجَّةً. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ الْإِنْكَارِ؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْكَلَالَةِ أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إذَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا وَعَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالْقِيَاسِ لَكَانَ الْمَسْحُ عَلَى بَاطِنِ الْخُفِّ أَوْلَى مِنْ ظَاهِرِهِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: ٤٩] وَلَمْ يَقُلْ بِمَا رَأَيْت وَلَوْ جَعَلَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ بِرَأْيِهِ لَجَعَلَ ذَلِكَ لِرَسُولِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ بَعْضِهَا قُلْنَا: قَدْ اشْتَهَرَ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نُقِلَ الْإِنْكَارُ عَنْهُمْ الْقَوْلُ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ بِحَيْثُ لَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهِ فَيُحْمَلُ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِنْ الْإِنْكَارِ إنْ ثَبَتَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ صَادِرًا عَمَّنْ لَيْسَ لَهُ رُتْبَةُ الِاجْتِهَادِ وَمَا كَانَ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ أَوْ لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ يَشْهَدُ لَهُ بِالِاعْتِبَارِ أَوْ مُسْتَعْمَلًا فِيمَا تَعَبَّدْنَا اللَّهَ تَعَالَى فِيهِ بِالْعِلْمِ دُونَ الظَّنِّ جَمْعًا بَيْنَ النَّقْلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْقَوَاطِعِ مِنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ الِاجْتِهَادُ وَالْقَوْلُ بِالرَّأْيِ وَالسُّكُوتُ عَنْ الْقَائِلِينَ بِهِ وَثَبَتَ ذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ فِي وَقَائِعَ مَشْهُورَةٍ كَمِيرَاثِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ وَتَعَيُّنِ الْإِمَامِ بِالْبَيْعَةِ وَجَمْعِ الْمُصْحَفِ وَمَا لَمْ يَتَوَاتَرْ كَذَلِكَ فَقَدْ صَحَّ مِنْ آحَادِ الْوَقَائِعِ رِوَايَاتٌ صَحِيحَةٌ وَلَمْ يُنْكِرْهَا أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ فَأَوْرَثَ ذَلِكَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِقَوْلِهِمْ بِالرَّأْيِ كَمَا عُرِفَ سَخَاوَةُ حَاتِمٍ وَشَجَاعَةُ عَلِيٍّ بِمِثْلِ هَذَا الدَّلِيلِ وَمَا نَقَلُوهُ بِخِلَافِهِ فَأَكْثَرُهَا مَقَاطِيعُ مَرْوِيَّةٌ مِنْ غَيْرِ ثَبْتٍ، وَهِيَ بِأَعْيَانِهَا مُعَارَضَةٌ بِرِوَايَاتٍ صَحِيحَةٍ عَنْ صَاحِبِهَا بِنَقِيضِهَا فَكَيْفَ يُتْرَكُ الْمَعْلُومُ ضَرُورَةً بِمِثْلِهَا.
وَلَوْ تَسَاوَتْ فِي الصِّحَّةِ لَوَجَبَ طَرْحُ جَمِيعِهَا وَالرُّجُوعُ إلَى مَا تَوَاتَرَ مِنْ مُشَاوَرَاتِ الصَّحَابَةِ وَاجْتِهَادَاتِهِمْ، وَلَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ لَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَشْهُورِ مِنْ اجْتِهَادَاتِهِمْ فَيُحْمَلُ مَا أَنْكَرُوهُ عَلَى الرَّأْيِ الْمُخَالِفِ لِلنَّصِّ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا.
فَإِنْ قِيلَ سَلَّمْنَا عَدَمَ الْإِنْكَارِ لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ السَّكُوتَيَّ لَيْسَ بِقَاطِعٍ وَالْمَسْأَلَةُ قَطْعِيَّةٌ فَلَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِمِثْلِهِ فِيهَا قُلْنَا: هُوَ إجْمَاعٌ قَاطِعٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ مِنْهُمْ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَآثَرَ الْمُظَفَّرُ السَّمْعَانِيُّ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ وَغَيْرِهِمَا عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إجْمَاعٌ سُكُوتِيٌّ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالْفِقْهِ مِنْ الصَّحَابَةِ شَرَعُوا فِي الْقِيَاسِ وَالْعَمَلِ بِالرَّأْيِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا فِعْلِيًّا مِنْهُمْ وَاَلَّذِينَ سَكَتُوا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَلَا يَقْدَحُ سُكُوتُهُمْ فِي قَطْعِيَّةِ الْإِجْمَاعِ.
١ -
قَوْلُهُ (فَإِنْ طَعَنَ طَاعِنٌ فِيهِمْ فَقَدْ ضَلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) حَكَى الْجَاحِظُ عَنْ النَّظَّامِ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَخُضْ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي الْقِيَاسِ إلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ مِنْ قُدَمَائِهِمْ كَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبْلٍ وَنَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ أَحْدَاثِهِمْ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ مِنْهُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute