للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَابُ الْعَوَارِضِ) (الْمُكْتَسَبَةِ) :

وَهِيَ نَوْعَانِ مِنْ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَمِنْ غَيْرِهِ عَلَيْهِ أَمَّا الَّتِي مِنْ جِهَتِهِ فَالْجَهْلُ وَالسُّكْرُ وَالْهَزْلُ وَالسَّفَهُ وَالْخَطَأُ وَالسَّفَرُ وَاَلَّذِي مِنْ غَيْرِهِ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ أَمَّا الْجَهْلُ فَأَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ جَهْلٌ بَاطِلٌ بِلَا شُبْهَةٍ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا أَصْلًا فِي الْآخِرَةِ وَجَهْلٌ هُوَ دُونَهُ لَكِنَّهُ بَاطِلٌ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا أَيْضًا فِي الْآخِرَةِ وَجَهْلٌ يَصْلُحُ شُبْهَةً وَجَهْلٌ يَصْلُحُ عُذْرًا أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْكُفْرُ مِنْ الْكَافِرِ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ مُكَابَرَةٌ وَجُحُودٌ بَعْدَ وُضُوحِ الدَّلِيلِ

ــ

[كشف الأسرار]

شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ إعْلَاءُ الشَّأْنِ وَسَبَبُ الْمُبَاهَاةِ عَلَى الْأَقْرَانِ وَهَذَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَأَمَّا فِي حَقِّ الْكَافِرِ فَالسُّؤَالُ لِلْإِلْزَامِ وَالتَّخْجِيلِ لَا لِلْإِكْرَامِ وَالتَّبْجِيلِ نَرْجُو اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُصَيِّرَهُ لَنَا رَوْضَةً بِكَرْمِهِ وَفَضْلِهِ وَأَنْ يُعِيذَنَا مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِهِ بِمَنِّهِ وَطَوْلِهِ إنَّهُ الْكَرِيمُ الْمُنْعِمُ الدَّيَّانُ ذُو الطَّوْلِ وَالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ.

[بَاب الْعَوَارِض الْمُكْتَسَبَة وَهِيَ نَوْعَانِ]

[النَّوْع الْأَوَّل مِنْ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ]

(بَابُ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ) :

إنَّمَا جُعِلَ الْجَهْلُ مِنْ الْعَوَارِضِ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا أَصْلِيًّا؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ وَثَابِتٌ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ كَالصِّغَرِ وَمِنْ الْمُكْتَسَبَةِ؛ لِأَنَّ إزَالَتَهُ بِاكْتِسَابِ الْعِلْمِ فِي قُدْرَةِ الْعَبْدِ فَكَانَ تَرْكُ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ مِنْهُ اخْتِيَارًا بِمَنْزِلَةِ اكْتِسَابِ الْجَهْلِ بِاخْتِيَارِ بَقَائِهِ فَكَانَ مُكْتَسَبًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَجَعَلَ السُّكْرَ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُصُولُهُ فِي قُدْرَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ وَهُوَ شُرْبُ الْمُسْكِرِ بِاخْتِيَارِهِ وَغَرَضُهُ مِنْ الشُّرْبِ حُصُولُ السُّكْرِ كَمَا أَنَّ غَرَضَ شَارِبِ الْمَاءِ حُصُولُ الرِّيِّ فَكَانَ السُّكْرُ مُضَافًا إلَى كَسْبِهِ نَظَرًا إلَى السَّبَبِ وَالْغَرَضِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الرِّقُّ فَإِنَّهُ جُعِلَ مِنْ الْعَوَارِضِ السَّمَاوِيَّةِ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ وَهُوَ الْكُفْرُ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ مِنْ الْكُفْرِ لَيْسَ حُصُولُ الرِّقِّ وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْكَافِرِ لَا الْكُفْرِ الْمُجَرَّدِ وَالِاسْتِيلَاءُ لَيْسَ فِي قُدْرَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ فَكَانَ الرِّقُّ سَمَاوِيًّا.

قَوْلُهُ (أَمَّا الْجَهْلُ فَكَذَا) قِيلَ الْجَهْلُ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْمَعْدُومِ شَيْئًا إذْ الْجَهْلُ يَتَحَقَّقُ بِالْمَعْدُومِ كَمَا يَتَحَقَّقُ بِالْمَوْجُودِ أَوْ كَوْنُ الْمَعْدُومِ الْمَجْهُولِ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الْحَدِّ وَكِلَاهُمَا فَاسِدٌ وَقِيلَ هُوَ صِفَةٌ تُضَادُّ الْعِلْمَ عِنْدَ احْتِمَالِهِ وَتَصَوُّرِهِ وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا عِلْمَ لَهَا فَإِنَّهَا لَا تُوصَفُ بِالْجَهْلِ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْعِلْمِ فِيهَا قَالَ السَّيِّدُ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِم - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ رِيَاضَةِ الْأَخْلَاقِ الْجَهْلُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ عَدَمُ الشُّعُورِ وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الشُّعُورُ بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ السَّفَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: ١٩٩] وَقَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:

أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلَيْنَا

فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِطْرِيَّةٌ وَلَيْسَ بِعَيْبٍ لِشُمُولِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: ٧٨] وَإِنَّمَا الْعَيْبُ التَّقْصِيرُ فِي إزَالَةِ الْجَهْلِ وَدَوَاؤُهُ التَّعَلُّمُ.

وَالْقِسْمُ الثَّانِي هُوَ الْغَلَطُ وَدَوَاؤُهُ التَّوَقُّفُ وَالتَّثَبُّتُ وَسَبَبُهُ الْجَهْلُ الْخُلُقِيُّ مَعَ الْعَجَلَةِ وَالْعُجْبِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ سَيُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُكَابَرَةُ وَالْجُحُودُ الْإِنْكَارُ بَعْدَ حُصُولِ الْعِلْمِ وَوُضُوحِ الدَّلِيلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: ١٤] وَعَنْ هَذَا قِيلَ لَوْ سَأَلَ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ دَعْوَى الْمُدَّعِي أَتَجْحَدُ أَمْ تُقِرُّ فَبِأَيِّهِمَا أَجَابَ يَكُونُ إقْرَارًا فَالْكُفْرُ جُحُودٌ بَعْدَ وُضُوحِ الدَّلِيلِ؛ لِأَنَّ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الصَّانِعِ جَلَّ جَلَالُهُ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعَظَمَةِ أُلُوهِيَّتِهِ لَا تُعَدُّ كَثْرَةً وَلَا تَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى لُبٍّ كَمَا قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ:

فَيَا عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الْإِلَهُ ... أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ جَاحِدٌ

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ

وَكَذَا الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ رِسَالَةِ الرُّسُلِ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ وَالْحُجَجِ الْبَاهِرَةِ ظَاهِرَةٌ مَحْسُوسَةٌ فِي زَمَانِهِمْ لَا وَجْهَ إلَى رَدِّهَا وَإِنْكَارِهَا وَقَدْ نُقِلَتْ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتُ بَعْدَ انْقِرَاضِ زَمَانِهِمْ بِالتَّوَاتُرِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَكَانَ إنْكَارُهَا بِمَنْزِلَةِ إنْكَارِ الْمَحْسُوسِ

<<  <  ج: ص:  >  >>