للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثُمَّ الْمُجْمَلُ، وَهُوَ مَا ازْدَحَمَتْ فِيهِ الْمَعَانِي وَاشْتَبَهَ الْمُرَادُ اشْتِبَاهًا لَا يُدْرَكُ بِنَفْسِ الْعِبَارَةِ بَلْ بِالرُّجُوعِ إلَى الِاسْتِفْسَارِ

ثُمَّ الطَّلَبُ ثُمَّ التَّأَمُّلُ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: ٢٧٥] فَإِنَّهُ

ــ

[كشف الأسرار]

مَا يُعَذَّبُ بِهِ.

وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ، {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: ١١٢] ، فَاللِّبَاسُ لَا يُذَاقُ وَلَكِنَّهُ يَشْمَلُ الظَّاهِرَ وَلَا أَثَرَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ وَالْإِذَاقَةُ أَثَرُهَا فِي الْبَاطِنِ وَلَا شُمُولَ لَهَا فَاسْتُعِيرَتْ الْإِذَاقَةُ لِمَا يَصِلُ مِنْ أَثَرِ الضَّرَرِ إلَى الْبَاطِنِ وَاللِّبَاسُ بِالشُّمُولِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ فَأَذَاقَهُمْ مَا غَشِيَهُمْ مِنْ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ أَيْ أَثَرُهُمَا وَاصِلٌ إلَى بَوَاطِنِهِمْ مَعَ كَوْنِهِ شَامِلًا لَهُمْ، وَبَيَانُ النَّظَائِرِ الثَّلَاثَةِ مَنْقُولٌ مِنْ الْعَلَّامَةِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْكَرْدَرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى الطَّلَبِ وَالتَّأَمُّلِ أَنْ يَنْظُرَ أَوَّلًا فِي مَفْهُومَاتِ اللَّفْظِ جَمِيعًا فَيَضْبِطُهَا ثُمَّ يَتَأَمَّلَ فِي اسْتِخْرَاجِ الْمُرَادِ مِنْهَا كَمَا إذَا نَظَرَ فِي كَلِمَةِ " أَنَّى " فَوَجَدَهَا مُشْتَرَكَةً بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا فَهَذَا هُوَ الطَّلَبُ ثُمَّ تَأَمَّلَ فِيهِمَا فَوَجَدَهَا بِمَعْنَى كَيْفَ فِي هَذَا الْمَوْقِعِ دُونَ أَيْنَ فَحَصَلَ الْمَقْصُودُ وَكَمَا إذَا نَظَرَ فِي قَوْله تَعَالَى، {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: ٣] ، فَوَجَدَهُ دَالًّا عَلَى مَفْهُومَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مُتَوَالِيَةٍ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ غَيْرِ مُتَوَالِيَةٍ وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا ثُمَّ تَأَمَّلَ فِيهِمَا فَوَجَدَهُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي لِفَسَادٍ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَظَهَرَ الْمُرَادُ وَقِسْ عَلَيْهِ الْبَاقِي

[تَعْرِيف الْمُجْمَلُ]

قَوْلُهُ (ثُمَّ الْمُجْمَلُ) أَيْ بَعْدَ الْمُشْكِلِ الْمُجْمَلُ وَمَعْنَاهُ فَوْقَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَدَأَ بِبَيَانِ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْخَفَاءِ أَوَّلًا كَانَ كُلُّ مَا بَعْدَهُ أَعْلَى رُتْبَةً مِنْهُ فِي الْخَفَاءِ، مَا ازْدَحَمَتْ فِيهِ الْمَعَانِي أَيْ تَدَافَعَتْ يَعْنِي يَدْفَعُ كُلُّ وَاحِدٍ سِوَاهُ لَا أَنَّهُ شَمَلَ مَعَانِيَ كَثِيرَةً، وَقَوْلُهُ الْمَعَانِي، لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصَيْرُورَتِهِ مُجْمَلًا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ قَدْ يَصِيرُ مُجْمَلًا إذَا انْسَدَّ فِيهِ بَابُ التَّرْجِيحِ كَمَا مَرَّ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْمَعْنَى هَهُنَا مَفْهُومُ اللَّفْظِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْ ازْدِحَامِ الْمَعَانِي تَوَارُدُهَا عَلَى اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ رُجْحَانٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْبَاقِي كَمَا فِي الْمُشْتَرَكِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ إلَّا أَنَّ التَّوَارُدَ هَهُنَا أَعَمُّ مِنْهُ فِي الْمُشْتَرَكِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمُشْتَرَكِ بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ فَقَطْ وَهَهُنَا بِاعْتِبَارِهِ وَبِاعْتِبَارِ غَرَابَةِ اللَّفْظِ وَتَوَحُّشِهِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ فِيهِ وَبِاعْتِبَارِ إبْهَامِ الْمُتَكَلِّمِ الْكَلَامَ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُجْمَلَ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ نَوْعٌ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ لُغَةً كَالْهَلُوعِ قَبْلَ التَّفْسِيرِ وَنَوْعٌ مَعْنَاهُ مَفْهُومٌ لُغَةً وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ كَالرِّبَا وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَوْعٌ مَعْنَاهُ مَعْلُومٌ لُغَةً إلَّا أَنَّهُ مُتَعَدِّدٌ وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ مِنْهَا وَلَمْ يُمْكِنْ تَعْيِينُهُ لِانْسِدَادِ بَابِ التَّرْجِيحِ فِيهِ كَمَا مَرَّ فَفِي الْقِسْمِ الْأَخِيرِ تَوَارُدُ الْمَعْنَى بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ وَفِي الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِاعْتِبَارِ غَرَابَةِ اللَّفْظِ وَإِبْهَامِ التَّكَلُّمِ، وَقِيلَ قَوْلُهُ مَا ازْدَحَمَتْ فِيهِ الْمَعَانِي زَائِدٌ فِي التَّحْدِيدِ إذْ يَكْفِيه أَنْ يَقُولَ هُوَ مَا اشْتَبَهَ الْمُرَادُ اشْتِبَاهًا لَا يُدْرَكُ إلَّا بِالِاسْتِفْسَارِ كَمَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ هُوَ لَفْظٌ لَا يُفْهَمُ الْمُرَادُ مِنْهُ إلَّا بِالِاسْتِفْسَارِ الْمُجْمَلِ، وَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: هُوَ الَّذِي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ أَصْلًا وَلَكِنَّهُ احْتَمَلَ الْبَيَانَ.

وَقَالَ آخَرُ هُوَ مَا لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ بِبَيَانٍ يَقْتَرِنُ بِهِ، قُلْت لَمَّا حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ فَهْمُ الْمَعْنَى لَا ضَيْرَ فِي تَرْكِ التَّكَلُّفِ وَبَيَانِ سَبَبِ الِاشْتِبَاهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَيَانَ اللَّاحِقَ بِالْمُجْمَلِ قَدْ يَكُونُ بَيَانًا شَافِيًا، وَيَصِيرُ الْمُجْمَلُ بِهِ مُفَسَّرًا كَبَيَانِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ شَافٍ وَيَصِيرُ الْمُجْمَلُ بِهِ مُؤَوَّلًا كَبَيَانِ الرِّبَا بِالْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ: - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - خَرَجَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ الدُّنْيَا وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَبْوَابَ الرِّبَا، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْبَيَانِ قَدْ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الطَّلَبِ وَالتَّأَمُّلِ؛ لِأَنَّ الْمُجْمَلَ بِمِثْلِ هَذَا الْبَيَانِ

<<  <  ج: ص:  >  >>