وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَصِحُّ أَنْ يُسْتَعَارَ الطَّلَاقُ لِلْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي الْمَعَانِي يَتَشَابَهَانِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إسْقَاطٌ بُنِيَ عَلَى السِّرَايَةِ وَاللُّزُومِ وَالْمُنَاسَبَةُ فِي الْمَعَانِي مِنْ أَسْبَابِ الِاسْتِعَارَةِ مِثْلُ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْأَسْبَابِ وَقُلْنَا لَا يَصِحُّ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ لِمَا قُلْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّ اتِّصَالَ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ فِي حَقِّ الْأَصْلِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ.
وَلَا تَصِحُّ الِاسْتِعَارَةُ لِلْمُنَاسَبَةِ فِي الْمَعَانِي مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا؛ لِأَنَّ طَرِيقَ الِاسْتِعَارَةِ مِنْ قِبَلِ الْمَعَانِي الْمُشَاكِلَةِ فِي الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ مِنْ قَبِيلِ الِاخْتِصَاصِ الَّذِي بِهِ يَقُومُ الْمَوْجُودُ فَأَمَّا بِكُلِّ مَعْنًى فَلَا وَهَذَا الطَّرِيقُ مِنْ الْخَصْمِ نَظِيرُ طَرِيقِهِ فِي أَوْصَافِ النَّصِّ أَنَّ التَّعْلِيلَ بِكُلِّ وَصْفٍ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ أَثَرٍ خَاصٍّ وَقُلْنَا نَحْنُ هُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ يَسْقُطُ فَكَذَلِكَ الِاسْتِعَارَةُ يَقَعُ بِمَعْنًى لَهُ أَثَرُ الِاخْتِصَاصِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الشُّجَاعَ أَسَدًا لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْمَعْنَى الْخَاصِّ وَهُوَ الشُّجَاعَةُ فَأَمَّا بِكُلِّ وَصْفٍ فَلَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ (كَشْفَ) الِامْتِحَانِ وَيُصَيِّرُ (١٠) الْمَوْجُودَاتِ (ثَانِي) فِي الْأَحْكَامِ كُلِّهَا مُتَنَاسِبَةٌ
ــ
[كشف الأسرار]
الِاسْتِعَارَةِ فَلِذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ) لَا يَجُوزُ اسْتِعَارَةُ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ لِلْعَتَاقِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ وَالْخِلَافُ فِي الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَة سَوَاءٌ حَتَّى لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ طَلَّقْتُك أَوْ أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ حَرَامٌ وَنَوَى بِهِ الْحُرِّيَّةَ لَا يَعْتِقُ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ. قَالَ التَّشَابُهُ وَالتَّشَاكُلُ فِي الْمَعَانِي مِنْ طُرُقِ الِاسْتِعَارَةِ كَالشُّجَاعِ تَسَمَّى أَسَدًا وَالْبَلِيدِ حِمَارًا وَقَدْ ثَبَتَتْ الْمُشَاكَلَةُ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي الْمَعْنَى لُغَةً وَشَرْعًا. أَمَّا لُغَةً فَلِأَنَّ
الطَّلَاقَ مَعْنَاهُ التَّخْلِيَةُ وَالْإِرْسَالُ يُقَالُ أَطْلَقْت الْبَعِيرَ أَيْ أَرْسَلْته وَخَلَّيْته وَكَذَا الْعَتَاقُ مَوْضُوعٌ لِهَذَا فَإِنَّهُ يُقَالُ أَعْتَقْت الْعُصْفُورَ وَحَرَّرْته أَيْ أَرْسَلْته.
وَأَمَّا شَرْعًا فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إزَالَةُ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الْإِبْطَالِ مَبْنِيٌّ عَلَى السِّرَايَةِ فَإِنَّهُ لَوْ طَلَّقَ نِصْفَهَا يَسْرِي إلَى الْكُلِّ وَكَذَا لَوْ أَعْتَقَ نِصْفَهُ يَسْرِي إلَى الْكُلِّ أَيْضًا إذَا كَانَ مُوسِرًا وَكَذَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَازِمٌ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَلَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَيَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالْإِيجَابِ فِي الْمَجْهُولِ وَإِذَا ثَبَتَ الِاتِّصَالُ بَيْنَهُمَا مَعْنًى جَازَ اسْتِعَارَةُ الطَّلَاقِ لِلْعَتَاقِ كَمَا جَازَ عَكْسُهُ. (وَقُلْنَا) لَا يَصِحُّ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ صِحَّتِهَا مُنْحَصِرٌ عَلَى الِاتِّصَالِ ذَاتًا أَوْ مَعْنًى كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَقَدْ عُدِمَ الِاتِّصَالُ بَيْنَهُمَا ذَاتًا؛ لِأَنَّهُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ السَّبَبِيَّةُ وَانْقِطَاعُ مِلْكِ النِّكَاحِ قَطُّ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِانْقِطَاعِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ كَمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اتِّصَالَ الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ لَا يَصْلُحُ طَرِيقًا لِلِاسْتِعَارَةِ وَقَدْ سَلَّمَ الْخَصْمُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا اتِّصَالَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ السَّبَبِيَّةُ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِعَارَةُ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَكَذَا عَدَمُ الِاتِّصَالِ بَيْنَهُمَا مَعْنًى لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فَامْتَنَعَتْ الِاسْتِعَارَةُ بِالْكُلِّيَّةِ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ اسْقِنِي نَاوِيًا لِلْعِتْقِ.
[الِاسْتِعَارَةُ لِلْمُنَاسَبَةِ فِي الْمَعَانِي]
قَوْلُهُ (مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا) أَيْ ذَكَرْنَاهُ فِي جَانِبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إسْقَاطٌ بُنِيَ عَلَى السِّرَايَةِ وَاللُّزُومِ. هِيَ مِنْ قَبِيلِ الِاخْتِصَاصِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْمَوْجُودُ أَيْ مِنْ قَبِيلِ الْمَعَانِي الْمُخْتَصَّةِ الَّتِي قِيَامُ الْمَوْجُودِ بِهَا بِحَيْثُ لَوْ زَالَتْ عَنْهُ لَا يَبْقَى الْمَوْجُودُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلَا يُرِيدُ بِهِ الْمَعْنَى الدَّاخِلَ فِي الْمَاهِيَّةِ وَإِنَّمَا يُرِيدُ مَعْنًى هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ وَمُلَازِمٌ لَهُ وَاشْتُهِرَ بِهِ مِثْلُ الشَّجَاعَةِ لِلْأَسَدِ وَالْبَلَادَةِ لِلْحِمَارِ فَإِنَّ قِوَامَهُمَا بِهِمَا يَعْنِي لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُمَا بِدُونِهِمَا. فَأَمَّا بِكُلِّ مَعْنًى فَلَا أَيْ فَأَمَّا الِاسْتِعَارَةُ بِكُلِّ مَعْنًى فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا لَوْ جَازَتْ بِكُلِّ مَعْنًى جَازَتْ اسْتِعَارَةُ الْأَرْضِ لِلسَّمَاءِ وَالْجِدَارِ لِلْإِنْسَانِ بِاعْتِبَارِ الْجِسْمِيَّةِ وَالْوُجُودِ وَالْحُدُوثِ وَلَا يَتَفَوَّهُ بِهِ عَاقِلٌ. وَلِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْعَرَبِ وَإِنَّهُمْ اسْتَعَارُوا بِالْمَعْنَى الْمَخْصُوصِ الْمَشْهُورِ وَامْتَنَعُوا عَنْ الِاسْتِعَارَةِ بِالْأَوْصَافِ الْعَامَّةِ فَعُلِمَ أَنَّهَا لَا يَصِحُّ بِكُلِّ مَعْنًى. أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَخَرَ وَالْحُمَّى مِنْ لَوَازِمِ الْأَسَدِ كَالشَّجَاعَةِ وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَشْتَهِرْ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَارَ الْأَسَدُ لِلْأَبْخَرِ وَالْمَحْمُومِ.
وَهَذَا الطَّرِيقُ أَيْ الِاسْتِعَارَةُ بِكُلِّ وَصْفٍ مَشْهُورًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ نَظِيرُ طَرِيقِهِ فِي اعْتِبَارِ أَوْصَافِ النَّصِّ حَيْثُ جَوَّزَ التَّعْلِيلَ بِالْوَصْفِ الْمُؤَثِّرِ وَبِغَيْرِهِ مِنْ الْوَصْفِ الْمُخَيِّلِ وَالْوَصْفِ الْمُتَعَدِّي وَغَيْرِ الْمُتَعَدِّي وَجَوَّزَ التَّعْلِيلَ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ. هُوَ بَاطِلٌ أَيْ التَّعْلِيلُ بِكُلِّ وَصْفٍ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ النَّاس مُبْتَلَوْنَ بِالِاعْتِبَارِ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: ٢] . فَلَوْ جَازَ التَّعْلِيلُ بِكُلِّ وَصْفٍ لَمْ يَبْقَ لِلِابْتِلَاءِ فَائِدَةٌ وَلَمْ يَبْقَ لِلْعَالِمِ عَلَى الْجَاهِلِ فَضْلٌ وَلَقَاسَ كُلُّ مَنْ لَهُ أَدْنَى تَمْيِيزٍ بِأَيِّ وَصْفٍ شَاءَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute