وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الِاتِّصَالَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ مِنْ قِبَلِ حُكْمِ الشَّرْعِ يَصْلُحُ طَرِيقًا لِلِاسْتِعَارَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ يَخْتَصُّ بِاللُّغَةِ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ الِاسْتِعَارَةِ الْقُرْبُ وَالِاتِّصَالُ وَذَلِكَ ثَابِتٌ بَيْنَ كُلِّ مَوْجُودَيْنِ مِنْ حَيْثُ وُجِدَا وَالْمَشْرُوعُ قَائِمٌ بِمَعْنَاهُ الَّذِي شُرِعَ لَهُ وَسَبَبِهِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ فَصَحَّتْ بِهِ الِاسْتِعَارَةُ.
ــ
[كشف الأسرار]
بِهِمَا الِاسْتِعَارَةَ فِيهَا فَالِاسْتِعَارَةُ الْجَارِيَةُ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ وَالْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ بِالْمُجَاوِرَةِ الَّتِي بَيْنَهَا نَظِيرُ الِاسْتِعَارَةِ فِي الْمَحْسُوسَاتِ فَالِاتِّصَالُ الصُّورِيُّ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَصَارَ الِاتِّصَالُ فِي السَّبَبِ نَظِيرَ الصُّوَرِ فِيمَا يُحَسُّ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ مَعْنًى إذْ مَعْنَى السَّبَبِ الْإِفْضَاءُ إلَى الشَّيْءِ وَمَعْنَى الْمُسَبَّبِ لَيْسَ كَذَلِكَ وَكَذَا مَعْنَى الْعِلَّةِ الْإِيجَابُ وَالْإِثْبَاتُ وَمَعْنَى الْمَعْلُولِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا مَعْنًى بِوَجْهٍ فَكَانَ هَذَا الِاتِّصَالُ مِنْ قَبِيلِ اتِّصَالِ الْمَطَرِ بِالسَّحَابِ.
وَالِاسْتِعَارَةُ الْجَارِيَةُ فِي الْمَشْرُوعَاتِ بِالْمَعْنَى الَّذِي شُرِعَتْ لَهُ نَظِيرُ الِاسْتِعَارَةِ فِي الْمَحْسُوسَاتِ بِالِاتِّصَالِ الْمَعْنَوِيِّ. فَنَظِيرُ الْأُولَى اسْتِعَارَةُ الشِّرَاءِ لِلْمِلْكِ وَلَفْظُ الْعِتْقِ لِإِزَالَةِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ لِلِاتِّصَالِ الصُّورِيِّ كَمَا فِي الْمَطَرِ وَالسَّحَابِ لَا بِالْمَعْنَوِيِّ إذْ لَيْسَ بَيْنَ مَعْنَى الشِّرَاءِ وَمَعْنَى الْمِلْكِ مُنَاسَبَةٌ. وَكَذَا بَيْنَ مَعْنَى الْعِتْقِ وَمَعْنَى زَوَالِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ. وَنَظِيرُ الثَّانِيَةِ اسْتِعَارَةُ الْحَوَالَةِ لِلْوَكَالَةِ فَإِنَّ مَعْنَى الْحَوَالَةِ نَقْلُ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ وَمَعْنَى الْوَكَالَةِ نَقْلُ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ فَلِذَلِكَ اسْتَعَارَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَفْظَ الْحَوَالَةِ لِلْوَكَالَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَقَالَ فِي الْمُضَارِبِ وَرَبُّ الْمَالِ إذَا افْتَرَقَا وَلَيْسَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ وَبَعْضُ رَأْسِ الْمَالِ دَيْنٌ لَا يُجْبَرُ الْمُضَارِبُ عَلَى نَقْلِ الدُّيُونِ وَيُقَالُ لَهُ أَحِلْ رَبَّ الْمَالِ عَلَيْهِمْ أَيْ وَكِّلْهُ بِقَبْضِ الدُّيُونِ. وَكَذَا الْكَفَالَةُ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ حَوَالَةٌ، وَالْحَوَالَةُ بِشَرْطِ مُطَالَبَةِ الْأَصِيلِ كَفَالَةٌ لِتَشَابُهِهِمَا فِي الْمَعْنَى، وَمِثْلُ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ بَيْنَهُمَا اتِّصَالٌ مَعْنَوِيٌّ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ عَنْ حَاجَةِ الْمَيِّتِ فَيَجُوزُ اسْتِعَارَةُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى. {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: ١١] . أَيْ يُورِثُكُمْ.
[الِاتِّصَالَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ مِنْ قِبَلِ حُكْمِ الشَّرْعِ يَصْلُحُ طَرِيقًا لِلِاسْتِعَارَةِ]
قَوْلُهُ (وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ) رَدٌّ لِقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَجَازَ لَا يُجْزِئُ فِي الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ مُتَمَسِّكًا بِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ إنْشَاءَاتٌ فِي الشَّرْعِ وَأَنَّهَا أَفْعَالُ جَارِحَةِ الْكَلَامِ وَهِيَ اللِّسَانُ وَمَخَارِجُ الْحُرُوفِ بِمَنْزِلَةِ أَفْعَالِ سَائِرِ الْجَوَارِحِ وَمَنْ فَعَلَ فِعْلًا حَقِيقَةً وَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا فِعْلًا آخَرَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَكَذَلِكَ أَفْعَالُ هَذِهِ الْجَارِحَةِ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ الِاسْتِعَارَةُ وَالْمَجَازُ فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي مِنْ بَابِ الْأَخْبَارِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَنَحْوِهَا.
وَعِنْدَ الْعَامَّةِ يَجْرِي الِاسْتِعَارَةُ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمَّا وَضَعَتْ طَرِيقَ الِاسْتِعَارَةِ أَوْ اسْتَعْمَلَتْ الْمَجَازَ فِي كَلَامِهِمْ وَعُرِفَ بِالتَّأَمُّلِ طَرِيقَةً يَكُونُ إذْنًا مِنْهُمْ بِالِاسْتِعَارَةِ لِكُلِّ مُتَكَلِّمٍ مِنْ جُمْلَتِهِمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ كَصَاحِبِ الشَّرْعِ مَتَى وَضَعَ طَرِيقَ التَّعْلِيلِ كَانَ إذْنًا بِالْقِيَاسِ لِكُلِّ مَنْ فَهِمَ ذَلِكَ الطَّرِيقَ.
وَقَوْلُهُمْ إنَّهَا إنْشَاءُ أَفْعَالٍ وَالْمَجَازُ يَجْرِي فِي الْأَخْبَارِ قُلْنَا الْمَجَازُ لَا يَخْتَصُّ بِالْأَخْبَارِ بَلْ هُوَ جَارٍ فِي سَائِرِ أَقْسَامِ الْكَلَامِ وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ وَإِنْ جُعِلَتْ إنْشَاءَاتٍ شَرْعًا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا وَالِاسْتِعَارَةُ جَائِزَةٌ فِي الْكَلَامِ إذَا وُجِدَ طَرِيقُهَا كَمَا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْي فَإِذَا أَتَى بِكَلَامٍ هُوَ إنْشَاءٌ لِفِعْلٍ وَذَلِكَ الْكَلَامُ شَبِيهُ كَلَامٍ آخَرَ هُوَ إنْشَاءٌ لِفِعْلٍ آخَرَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ طَرِيقُ الِاسْتِعَارَةِ فَهُوَ نَظِيرُ الْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ كَذَا فِي الْمِيزَانِ. أَنَّ الِاتِّصَالَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ أَيْ أَنَّ مَدْلُولَيْهِمَا مِنْ قَبْلِ حُكْمِ الشَّرْعِ. وَإِنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ يَخْتَصُّ بِاللُّغَةِ أَيْ طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ أَوْ الِاسْتِعَارَةِ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute