للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَسَبَبُ الْمُعَامَلَاتِ تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمَقْدُورِ بِتَعَاطِيهَا، وَالْبَقَاءُ مُعَلَّقٌ بِالنَّسْلِ، وَالْكِفَايَةُ وَطَرِيقُهَا أَسْبَابٌ شَرْعِيَّةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْمِلْكِ وَالِاخْتِصَاصِ.

ــ

[كشف الأسرار]

الْعَادَةِ، وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَيْ بَيَانُ كَوْنِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَائِرَةً بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ أَوْ بَيَانُ أَنَّ الْعَمْدَ وَالْغَمُوسَ، وَأَشْبَاهَهُمَا لَا يَصْلُحُ سَبَبًا. نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ أَيْ فِي الْمَبْسُوطِ إنْ كَانَ تَصْنِيفُهُ بَعْدَ تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ أَوْ فِي هَذَا الْكِتَابِ بَعْدَ بَابِ الْقِيَاسِ.

[سَبَبُ الْمُعَامَلَاتِ]

قَوْلُهُ (وَسَبَبُ الْمُعَامَلَاتِ) أَيْ سَبَبُ شَرْعِيَّتِهَا تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمَقْدُورِ أَيْ الْمَحْكُومِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ. بِتَعَاطِيهَا أَيْ بِمُبَاشَرَتِهَا مِنْ قَوْلِك فُلَانٌ يَتَعَاطَى كَذَا أَيْ يَخُوضَ فِيهِ وَيَتَنَاوَلَهُ. فَإِنْ قِيلَ لَمَّا كَانَ الْبَقَاءُ مُتَعَلِّقًا بِهَا كَانَتْ هِيَ سَبَبًا لِلْبَقَاءِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْبَقَاءُ سَبَبًا لَهَا؟ . قُلْنَا: وُجُودُهَا سَبَبٌ لِلْبَقَاءِ، وَلَكِنَّ تَعَلُّقَ الْبَقَاءِ وَافْتِقَارَهُ إلَيْهَا سَبَبٌ لِشَرْعِيَّتِهَا، وَهُوَ أَمْرٌ سَابِقٌ عَلَى شَرْعِيَّتِهَا فَيَصْلُحُ سَبَبًا. وَبَيَانُهُ مَا ذَكَرَ الْمَشَايِخُ الثَّلَاثَةُ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَالشَّيْخُ الْمُصَنِّفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ، وَقَدَّرَ بَقَاءَهُ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَهَذَا الْبَقَاءُ إنَّمَا يَكُونُ بِبَقَاءِ الْجِنْسِ وَبَقَاءِ النَّفْسِ، فَبَقَاءُ الْجِنْسِ بِالتَّنَاسُلِ، وَذَلِكَ بِإِتْيَانِ الذُّكُورِ الْإِنَاثَ فِي مَوَاضِعِ الْحَرْثِ فَشُرِعَ لَهُ طَرِيقٌ يَتَأَدَّى بِهِ مَا قَدَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ فَسَادٌ، وَلَا ضَيَاعٌ، وَهُوَ طَرِيقُ الِازْدِوَاجِ بِلَا شَرِكَةٍ؛ لِأَنَّ فِي التَّغَلُّبِ فَسَادًا، وَفِي الشَّرِكَةِ ضَيَاعًا فَإِنَّ الْأَبَ مَتَى اشْتَبَهَ يَتَعَذَّرُ إيجَابُ الْمُؤْنَةِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْأُمِّ قُوَّةُ كَسْبِ الْكِفَايَاتِ فِي أَصْلِ الْجِبِلَّةِ. وَكَذَا لَا طَرِيقَ لِبَقَاءِ النَّفْسِ إلَى أَجَلِهِ غَيْرَ إصَابَةِ الْمَالِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ نَفْسٍ لِكِفَايَتِهَا لَا يَكُونُ حَاصِلًا فِي يَدِهَا، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِهِ بِالْمَالِ فَشُرِعَ سَبَبُ اكْتِسَابِ الْمَالِ وَسَبَبُ اكْتِسَابِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَهُوَ التِّجَارَةُ عَنْ تَرَاضٍ لِمَا فِي التَّغَالُبِ مِنْ الْفَسَادِ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ. هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ وَتَابَعَهُ فِيهَا عَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمَشَايِخِ. فَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا فَقَالُوا سَبَبُ وُجُوبِ الْعِبَادَاتِ نِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ عِبَادِهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى أَسْدَى إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا مِنْ أَنْوَاعِ النِّعَمِ مَا يَقْصُرُ الْعُقُولُ عَنْ الْوُقُوفِ عَلَى كُنْهِهَا فَضْلًا عَنْ الْقِيَامِ بِشُكْرِهَا، وَأَوْجَبَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ عَلَيْنَا بِإِزَائِهَا، وَرَضِيَ بِهَا شُكْرًا لِسَوَابِغِ نِعَمِهِ بِفَضْلِهِ وَكَرْمِهِ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ الْخُرُوجُ عَنْ شُكْرِ نِعَمِهِ، وَإِنْ قَلَّتْ مُدَّةُ عُمْرِهِ وَإِنْ طَالَتْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ شُكْرَ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ بِلَا شَكٍّ عَقْلًا أَوْ نَصًّا عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: ١٤] .، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ نِعْمَةٌ فَلْيَشْكُرْهَا» . فِي نُصُوصٍ كَثِيرَةٍ وَرَدَتْ فِيهِ وَكُلُّ عِبَادَةٍ صَالِحَةٌ لِكَوْنِهَا شُكْرًا لِنِعْمَةٍ مِنْ النِّعَمِ.

وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ الدَّالُّ عَلَى كَوْنِ الْعِبَادَةِ شُكْرًا، وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَلَّى حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ إنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك، وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» . أَخْبَرَ أَنَّهُ يُصَلِّي لِلَّهِ تَعَالَى شُكْرًا عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ. ثُمَّ نِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ، مِنْهَا إيجَادُهُ مِنْ الْعَدَمِ وَتَكْرِيمُهُ بِالْعَقْلِ وَالْحَوَاسِّ الْبَاطِنَةِ. وَمِنْهَا الْأَعْضَاءُ السَّلِيمَةُ، وَمَا يَحْصُلُ لَهُ بِهَا مِنْ التَّقَلُّبِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ حَالَةٍ إلَى مَا يُخَالِفُهَا مِنْ نَحْوِ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالِانْحِنَاءِ. وَمِنْهَا مَا يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ مَنَافِعِ الْأَطْعِمَةِ الشَّهِيَّةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِصُنُوفِ الْمَأْكُولَاتِ. وَمِنْهَا صُنُوفُ الْأَمْوَالِ الَّتِي بِهَا يُتَوَصَّلُ إلَى تَحْصِيلِ مَنَافِعِ النَّفْسِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهَا فَعَلَى حَسْبِ اخْتِلَافِهَا وَجَبَتْ الْعِبَادَاتُ. فَالْإِيمَانُ وَجَبَ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْوُجُودِ، وَقُوَّةِ النُّطْقِ، وَكَمَالِ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ أَنْفَسُ الْمَوَاهِبِ الَّتِي اخْتَصَّ الْإِنْسَانُ بِهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ النِّعَمِ فَالْوُجُوبُ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ بِالْعَقْلِ يُعْرَفُ أَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ وَاجِبٌ فَكَانَ النِّعَمُ مُعَرِّفًا لَهُ وُجُوبَ شُكْرِ الْمُنْعِمِ بِوَاسِطَةِ آلَةِ الْمَعْرِفَةِ، وَهِيَ الْعَقْلُ، وَهَذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>