وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَإِنَّ الْهَزْلَ بِالرِّدَّةِ كُفْرٌ لَا بِمَا هَزَلَ بِهِ لَكِنْ بِعَيْنِ الْهَزْلِ؛ لِأَنَّ الْهَازِلَ جَادٌّ فِي نَفْسِ الْهَزْلِ مُخْتَارٌ رَاضٍ وَالْهَزْلُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ اسْتِخْفَافٌ بِالدِّينِ الْحَقِّ فَصَارَ مُرْتَدًّا بِعَيْنِهِ لَا بِمَا هَزَلَ بِهِ إلَّا أَنَّ أَثَرَهُمَا سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْمُكْرَه؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لَعَيْنِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ فَأَمَّا الْكَافِرُ إذَا هَزَلَ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَتَبَرَّأَ عَنْ دِينِهِ هَازِلًا يَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ بِإِيمَانِهِ كَالْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءٍ لَا يَحْتَمِلُ حُكْمُهُ الرَّدَّ وَالتَّرَاخِيَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ السَّفَهُ السَّفَهُ هُوَ الْعَمَلُ بِخِلَافِ مُوجِبِ الشَّرْعِ مِنْ وَجْهٍ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى وَخِلَافُ دَلَالَةِ الْعَقْلِ فَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مَشْرُوعًا وَهُوَ السَّرَفُ وَالتَّبْذِيرُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْبَيْعِ وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ مَشْرُوعٌ إلَّا أَنَّ الْإِسْرَافَ حَرَامٌ كَالْإِسْرَافِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي الْأَهْلِيَّةِ وَلَا يَمْنَعُ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَلَا يُوجِبُ وَضْعَ الْخِطَابِ بِحَالٍ وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْهُ مَالَهُ فِي أَوَّلِ مَا بَلَغَ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: ٥] ثُمَّ عَلَّقَ الْإِيتَاءَ بِإِينَاسٍ مِنْ الرُّشْدِ فَقَالَ {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: ٦]
ــ
[كشف الأسرار]
لِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَقِدًا لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ وَالتَّكَلُّمُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ هَازِلًا اسْتِخْفَافٌ بِالدِّينِ الْحَقِّ وَهُوَ كُفْرٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: ٦٥] {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: ٦٦] فَصَارَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكُفْرِ بِطَرِيقِ الْهَزْلِ مُرْتَدًّا بِعَيْنِ الْهَزْلِ لِاسْتِخْفَافِهِ بِالدَّيْنِ الْحَقِّ لَا بِمَا هَزَلَ بِهِ أَيْ لَا بِاعْتِقَادِ مَا هَزَلَ بِهِ إلَّا أَنَّ أَثَرَهُمَا أَيْ أَثَرَ الْهَزْلِ بِالْكُفْرِ وَأَثَرَ مَا هَزَلَ بِهِ سَوَاءٌ فِي إزَالَةِ الْإِيمَانِ وَإِثْبَاتِ الْكُفْرِ بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِالسَّبَبِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا بَلْ يُجْرِيهِ عَلَى لِسَانِهِ اضْطِرَارًا وَدَفْعًا لِلشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لَهُ أَصْلًا.
وَلَا يُقَالُ إنَّ الْهَازِلَ لَا يَعْتَقِدُ الْكُفْرَ أَيْضًا لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ مُعْتَقِدٌ لِلْكُفْرِ؛ لِأَنَّ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ حُرْمَةُ الِاسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ وَعَدَمُ الرِّضَاءِ بِهِ وَلَمَّا رَضِيَ بِالْهَزْلِ مُعْتَقِدًا لَهُ كَانَ كَافِرًا كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ فَأَمَّا الْكَافِرُ إذَا هَزَلَ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَتَبَرَّأَ عَنْ دِينِهِ هَازِلًا فَيَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ بِإِيمَانِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَقَدْ بَاشَرَ أَحَدَ الرُّكْنَيْنِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ عَلَى سَبِيلِ الرِّضَاءِ، وَالْإِقْرَارُ هُوَ الْأَصْلُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِالْإِيمَانِ بِنَاءً عَلَيْهِ كَالْمُكْرَهِ عَلَى الْإِسْلَامِ إذَا أَسْلَمَ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِنَاءً عَلَى وُجُودِ أَحَدِ الرُّكْنَيْنِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِالتَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءٍ لَا يَقْبَلُ حُكْمُهُ الرَّدَّ وَالتَّرَاخِيَ فَإِنَّهُ إذَا أَسْلَمَ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ مُتَرَاخِيًا عَنْهُ وَلَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَدَّ إسْلَامُهُ بِسَبَبٍ كَمَا يُرَدُّ الْبَيْعُ بِخِيَارِ الْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ.
[السَّفَه مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ]
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ) أَيْ مِنْ أَقْسَامِ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ فَهُوَ السَّفَهُ السَّفَهُ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ الْخِفَّةُ وَالتَّحَرُّكُ يُقَالُ تَسَفَّهَتْ الرِّيَاحُ الثَّوْبَ إذَا اسْتَخَفَّتْهُ وَحَرَّكَتْهُ وَمِنْهُ زِمَامٌ سَفِيهٌ أَيْ خَفِيفٌ وَفِي الشَّرِيعَةِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ خِفَّةٍ تَعْتَرِي الْإِنْسَانَ فَتَحْمِلُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِ مُوجِبِ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ مَعَ قِيَامِ الْعَقْلِ حَقِيقَةً كَذَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ وَهَذَا التَّعْرِيفُ يَتَنَاوَلُ ارْتِكَابَ جَمِيعِ الْمَحْظُورَاتِ فَإِنَّ ارْتِكَابَهَا مِنْ السَّفَهِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَيَّدَ بِقَوْلِهِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ غَلَبَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى تَبْذِيرِ الْمَالِ وَإِتْلَافِهِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَلَمْ يُفْهَمْ عِنْدَ إطْلَاقِهِ ارْتِكَابُ مَعْصِيَةٍ أُخْرَى مِثْلُ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ سَفَهًا حَقِيقَةً فَكَأَنَّهُ بِذِكْرِ هَذَا الْقَيْدِ يُشِيرُ إلَى أَنَّ غَرَضَهُ تَعْرِيفُ السَّفَهِ الْمُصْطَلَحِ الَّذِي تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ وَتَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِهِ مِنْ مَنْعِ الْمَالِ وَوُجُوبِ الْحَجْرِ لَا جَمِيعِ أَنْوَاعِ السَّفَهِ وَلِهَذَا فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ وَهُوَ السَّرَفُ وَالتَّبْذِيرُ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الْعَمَلِ أَيْ نَعْنِي بِالْعَمَلِ بِخِلَافِ مُوجِبِ الشَّرْعِ مِنْ وَجْهٍ إلَى آخِرِهِ السَّرَفُ وَالتَّبْذِيرُ لِأَنَّ أَصْلَ الْبِرِّ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ أَيْ أَصْلُ ذَلِكَ الْعَمَلِ مَشْرُوعًا وَالسَّرَفُ وَالْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَالتَّبْذِيرُ تَفْرِيقُ الْمَالِ إسْرَافًا وَذَلِكَ أَيْ السَّفَهُ لَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي الْأَهْلِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْقُدْرَةِ ظَاهِرًا لِسَلَامَةِ التَّرْكِيبِ وَبَقَاءِ الْقُوَى الْغَرِيزِيَّةِ عَلَى حَالِهَا وَلَا بَاطِنًا لِبَقَاءِ نُورِ الْعَقْلِ بِكَمَالِهِ إلَّا أَنَّهُ يُكَابِرُ عَقْلَهُ فِي عَمَلِهِ فَلَا جَرَمَ يَبْقَى مُخَاطَبًا بِتَحَمُّلِ أَمَانَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيُخَاطَبُ بِالْأَدَاءِ فِي الدُّنْيَا ابْتِلَاءً وَيُجَازَى عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ.
وَإِذَا بَقِيَ أَهْلًا لِتَحَمُّلِ أَمَانَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَوُجُوبِ حُقُوقِهِ بَقِيَ أَهْلًا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَهِيَ التَّصَرُّفَاتُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ فَإِنَّهَا لَا تُحْمَلُ إلَّا عَلَى مَنْ هُوَ كَامِلُ الْحَالِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّبِيَّ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفَاتِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِإِيجَابِ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَحَمُّلِ أَمَانَتِهِ فَمَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute