للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَإِنَّمَا وَجَبَ نِسْبَةُ الْأَحْكَامِ إلَى الْعِلَلِ تَيْسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عِلَلًا بِذَوَاتِهَا وَأَنْ يَجْعَلَ الْعَقْلَ عِلَّةً بِنَفْسِهِ وَهُوَ بَاطِنٌ فِيهِ حَرَجٌ عَظِيمٌ فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَقْلَ مِنْ صِفَاتِ الْأَهْلِيَّةِ قُلْنَا إنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْأُمُورِ الْمُعْتَرِضَةِ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ.

(بَابُ بَيَانِ الْأَهْلِيَّةِ) :

وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا الْأَهْلِيَّةُ ضَرْبَانِ أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ وَأَهْلِيَّةُ أَدَاءً أَمَّا أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ فَيَنْقَسِمُ فُرُوعُهَا وَأَصْلُهَا وَاحِدٌ وَهُوَ الصَّلَاحُ لِلْحُكْمِ فَمَنْ كَانَ أَهْلًا لِحُكْمِ الْوُجُوبِ بِوَجْهٍ كَانَ هُوَ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ وَمَنْ لَا فَلَا وَأَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ نَوْعَانِ كَامِلٌ يَصْلُحُ لِلُزُومِ الْعُهْدَةِ وَقَاصِرٌ لِلُزُومِ الْعُهْدَةِ وَقَاصِرٌ لَا يَصْلُحُ لِلُّزُومِ الْعُهْدَةِ أَمَّا أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ فَبِنَاءً عَلَى قِيَامِ الذِّمَّةِ وَأَنَّ الْآدَمِيَّ يُولَدُ وَلَهُ ذِمَّةٌ صَالِحَةٌ لِلْوُجُوبِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -

ــ

[كشف الأسرار]

الْعَقْلَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْهَوَى لِأَنَّهُ لَا عَقْلَ فِي أَوَّلِ الْفِطْرَةِ وَالنَّفْسُ غَالِبَةٌ بِهَوَاهَا وَإِذَا حَدَثَ الْعَقْلُ حَدَثَ مَغْلُوبًا بِهِ إلَّا فِي حَقِّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْخَوَاصِّ وَإِذَا كَانَ مَغْلُوبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عِبْرَةٌ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ فِي مُقَابَلَةِ الْغَالِبِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً بِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْحِكْمَةِ إلْزَامُ الْعَمَلِ حِسًّا وَالْعَامِلُ مَغْلُوبٌ بِالْمَانِعِ فَكَذَا لَا يَحْسُنُ إلْزَامُ الْعَمَلِ بِالْحُجَّةِ وَالْحُجَّةُ مَدْفُوعَةٌ مَغْلُوبَةٌ بِغَيْرِهَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ تَأَيُّدِهِ بِدَعْوَةِ الرَّسُولِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ إدْرَاكِ زَمَانِ التَّأَمُّلِ وَالتَّجْرِبَةِ لِتَتِمَّ الْحُجَّةُ.

(فَإِنْ قِيلَ قَدْ تَمَسَّكَ كُلُّ فَرِيقٍ بِنُصُوصٍ كَمَا تَلَوْنَا فَكَيْفَ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ لَهُمْ) قُلْنَا تِلْكَ نُصُوصٌ مُؤَوَّلَةٌ بَعْضُهَا مُعَارَضٌ بِبَعْضٍ فَلَمْ يَتِمَّ الْحُجَّةُ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ بِهَا لِتَأْوِيلِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ إيَّاهَا بِمَا يُوَافِقُ مَذْهَبَهُمْ فَصَارَتْ كَأَنَّهَا سَاقِطَةٌ فِي حَقِّ التَّمَسُّكِ بِهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِتَعَارُضِهَا عَلَى أَنَّك إذَا تَأَمَّلْت فِيهَا عَرَفْت أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إيجَابِ الشَّارِعِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ وَلَا عَلَى أَنَّهُ يُلْغَى أَيْضًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْفَرِيقُ الثَّانِي فَكَانَتْ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ بِمَعْزِلٍ فَلِذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ لَا دَلِيلَ لَهُمْ.

وَقَوْلُهُ: وَإِنَّمَا وَجَبَ نِسْبَةُ الْأَحْكَامِ إلَى الْعِلَلِ إشَارَةٌ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ عَلَى فَسَادِ جَعْلِ الْعَقْلِ بِنَفْسِهِ حُجَّةً وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا شَرَعَ الْعِلَلَ لِنِسْبَةِ الْأَحْكَامِ إلَيْهَا تَيْسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ فَإِنَّ إيجَابَهُ كَانَ غَيْبًا عَنْهُمْ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ عِلَلٍ ظَاهِرَةٍ تُضَافُ الْأَحْكَامُ إلَيْهَا دَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنْهُمْ أَوْ الْوُقُوفُ عَلَى الْإِيجَابِ مُتَعَذِّرٌ فَكَانَتْ عِلَلُ الشَّرْعِ فِي الظَّاهِرَةِ أَمَارَاتٍ عَلَى الْإِيجَابِ فِي الْحَقِيقَةِ كَمَا قَرَعَ سَمْعَك غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَوْ جَعَلْنَا الْعَقْلَ عِلَّةً مُوجِبَةً لِلْأَحْكَامِ نَفْسَهُ مَعَ أَنَّهُ أَمْرٌ بَاطِنٌ كَانَ مُؤَدِّيًا إلَى الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ الْعَظِيمِ لِتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ وَهُوَ خِلَافُ مَوْضُوعِ الْعِلَلِ لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِلتَّيْسِيرِ فَلَا يَجُوزُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فِي هَذَا أَيْ فِي الْأَهْلِيَّةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ.

[بَابُ بَيَانِ الْأَهْلِيَّةِ]

[أضرب الْأَهْلِيَّة]

(بَابُ بَيَانِ الْأَهْلِيَّةِ)

أَهْلِيَّةُ الْإِنْسَانِ لِلشَّيْءِ صَلَاحِيَّتُهُ لِصُدُورِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَطَلَبِهِ مِنْهُ وَهِيَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ صَلَاحِيَّتِهِ لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ الْمَشْرُوعَةِ لَهُ وَعَلَيْهِ وَهِيَ الْأَمَانَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِحَمْلِ الْإِنْسَانِ إيَّاهَا بِقَوْلِهِ {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب: ٧٢] أَمَّا أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ فَيَنْقَسِمُ فُرُوعُهَا بِحَسَبِ انْقِسَامِ الْأَحْكَامِ فَالصَّبِيُّ أَهْلٌ لِبَعْضِ الْأَحْكَامِ وَلَيْسَ بِأَهْلٍ لِبَعْضِهَا أَصْلًا وَهُوَ أَهْلٌ لِبَعْضِهَا بِوَاسِطَةِ رَأْيِ الْوَلِيِّ فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَهْلِيَّةُ مُنْقَسِمَةً نَظَرًا إلَى أَفْرَادِ الْأَحْكَامِ وَأَصْلُهَا وَاحِدٌ وَهُوَ الصَّلَاحُ لِلْحُكْمِ أَيْ لِحُكْمِ الْوُجُوبِ بِوَجْهٍ وَهُوَ الْمُطَالَبَةُ بِالْوَاجِبِ أَدَاءً وَقَضَاءً وَالْعُهْدَةُ اسْتِحْقَاقُ حُقُوقٍ تَلْزَمُ بِالْعَقْدِ وَقِيلَ هِيَ نَفْسُ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَالْعَهْدَ سَوَاءٌ وَالْعُهْدَةُ التَّبَعَةُ أَيْضًا غَيْرَ أَنَّ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ الْمَقْصُودُ مِنْهَا الْمَالُ وَفِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَقْصُودُ اسْتِحْقَاقُ الْأَدَاءِ ابْتِلَاءً لِيَظْهَرَ الْمُطِيعُ مِنْ الْعَاصِي كَذَا رَأَيْت بِخَطِّ شَيْخِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَمَّا أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ فَبِنَاءً عَلَى قِيَامِ الذِّمَّةِ أَيْ لَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْأَهْلِيَّةُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ ذِمَّةٍ صَالِحَةٍ لِأَنَّ الذِّمَّةَ هِيَ مَحَلُّ الْوُجُوبِ وَلِهَذَا يُضَافُ إلَيْهَا وَلَا يُضَافُ إلَى غَيْرِهَا بِحَالٍ.

وَلِهَذَا اخْتَصَّ الْإِنْسَانُ بِالْوُجُوبِ دُونَ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا ذِمَّةٌ قَوْلُهُ (وَأَنَّ الْآدَمِيَّ يُولَدُ) دَلِيلٌ عَلَى قِيَامِ الذِّمَّةِ لِلْإِنْسَانِ

<<  <  ج: ص:  >  >>