للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَمَنْ أَلْغَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا دَلِيلَ لَهُ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْمٍ لَمْ يَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ إذَا قُتِلُوا ضُمِنُوا فَجَعَلَ كُفْرَهُمْ عَفْوًا وَمَنْ كَانَ فِيهِمْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ تَعَذَّرَ عَلَى مَا فَسَّرْنَا لَمْ يَسْتَوْجِبْ عِصْمَةً بِدُونِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ فِي الشَّرْعِ أَنَّ الْعَقْلَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِأَهْلِيَّتِهِ فَإِنَّمَا يُلْغِيهِ بِطَرِيقِ دَلَالَةُ الِاجْتِهَادِ وَالْمَعْقُولِ فَيُنَاقِضُ مَذْهَبَهُ وَأَنَّ الْعَقْلَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْهَوَى فَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً بِنَفْسِهِ بِحَالٍ

ــ

[كشف الأسرار]

مِنْ تَسْلِيمِهَا كَوْنُ الْعَقْلِ مُوجِبًا بِنَفْسِهِ وَبَيَانُهُ أَنَّهُمْ قَالُوا: قَدْ عُرِفَ حُسْنُ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ كَالْإِيمَانِ وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ بِالْعَقْلِ وَقُبْحُ بَعْضِهَا مِثْلُ الْكُفْرِ وَالْعَبَثِ بِهِ وَعُلِمَ أَنَّ الشَّرْعَ لَا يَرِدُ بِتَحْسِينِ مَا قَبَّحَهُ الْعَقْلُ وَلَا بِتَقْبِيحِ مَا حَسَّنَهُ الْعَقْلُ حَتَّى لَمْ يَجُزْ وُرُودُ نَسْخِ الْإِيمَانِ وَلَا وُرُودُ شَرْعِيَّةِ الْكُفْرِ فَعُلِمَ أَنَّ الْعَقْلَ مُوجِبٌ بِذَاتِهِ بِدُونِ الشَّرْعِ وَأَنَّ الشَّرْعَ تَابِعٌ لَهُ فِيمَا عُرِفَ حُسْنُهُ وَقُبْحُهُ بِهِ.

وَنَحْنُ نُسَلِّمُ لَهُمْ مَعْرِفَةَ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ بِالْعَقْلِ وَامْتِنَاعَ نَسْخِ مَا حَسَّنَهُ وَشَرْعَ مَا قَبَّحَهُ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ مُوجِبٌ بِذَاتِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ عَجَزَ بِنَفْسِهِ بَلْ الْمُوجِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَقِيقَةِ وَلَكِنْ بِالْعَقْلِ يُعْرَفُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ دَلِيلًا وَطَرِيقًا إلَى الْعِلْمِ، وَالدَّلِيلُ بِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا فَثَبَتَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْخَصْمُ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى مَا ادَّعَاهُ وَمَا ذَكَرُوا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الْعُقُولُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ مَا لَا يُدْرِكُهُ الْعُقُولُ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَمَقَادِيرِ الزَّكَوَاتِ وَالْجِنَايَاتِ وَالْحُدُودِ وَنَحْوِهَا قَوْلُهُ (وَمَنْ أَلْغَاهُ) أَيْ الْعَقْلَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهُمْ الْأَشْعَرِيَّةُ فَلَا دَلِيلَ لَهُ أَيْضًا أَيْ لَيْسَ لَهُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ مَذْهَبَهُ كَمَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُهُ مَا قَالَ فِي قَوْمٍ لَمْ يَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ إذَا قَتَلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ الدَّعْوَةِ ضَمِنُوا دِمَاءَهُمْ فَجَعَلَ كُفْرَهُمْ عَفْوًا حَيْثُ جَعَلَهُمْ كَالْمُسْلِمِينَ فِي الضَّمَانِ وَأَصْحَابُنَا قَالُوا لَا يَضْمَنُونَ لِأَنَّ قَتْلَهُمْ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا قَبْلَ الدَّعْوَةِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلضَّمَانِ لِأَنَّا لَمْ نَجْعَلْ كُفْرَهُمْ عَفْوًا بِحَالٍ وَلَمْ نَجْعَلْ غَفْلَتَهُمْ عَنْ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ عُذْرًا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ فَكَانَ قَتْلُهُمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ مِثْلَ قَتْلِ نِسَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ بَعْدَ الدَّعْوَةِ فَلَا يُوجِبُ ضَمَانًا.

وَلَمَّا كَانَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنْ جَعَلْت دِمَاءَهُمْ هَدَرًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُفْرَهُمْ لَمْ يُجْعَلْ عَفْوًا يَنْبَغِي أَنْ يُوجَبَ الضَّمَانُ بِقَتْلِ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَعْذُورًا مِثْلَ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَسْتَوْفُوا مُدَّةَ التَّأَمُّلِ وَقَتْلُهُمْ لَا يُوجِبُ ضَمَانًا عِنْدَكُمْ أَيْضًا أَشَارَ إلَى الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يُعْذَرُ عَلَى مَا فَسَّرْنَا بِأَنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مِمَّنْ لَمْ يَسْتَوْفِ مُدَّةَ التَّأَمُّلِ لَمْ يَسْتَوْجِبْ عِصْمَةً بِدُونِ دَارِ الْإِسْلَامِ لِمَا عَرَفَهُ أَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُقَوَّمَةَ لَا تَثْبُتُ بِدُونِ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا فَلِذَلِكَ كَانَ دِمَاؤُهُمْ هَدَرًا أَيْضًا.

أَلَا تَرَى أَنَّ قَتْلَ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا لَا يُوجِبُ ضَمَانًا لِمَا قُلْنَا فَهَذَا أَوْلَى قَوْلُهُ (وَذَلِكَ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ فَلَا دَلِيلَ لَهُ أَيْضًا وَلِقَوْلِهِ فَلَيْسَ مَعَهُ دَلِيلٌ يَعْنِي إنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ لَا دَلِيلَ لِلْفَرِيقَيْنِ لِأَنَّ الْقَائِلَ بِكَوْنِهِ يُلْغَى لَا يَجِدُ فِي نُصُوصِ الشَّرْعِ أَنَّ الْعَقْلَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِلْأَهْلِيَّةِ فَلَوْ أَلْغَاهُ إنَّمَا يُلْغِيهِ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالْمَعْقُولِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِدْ نَصًّا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى الْمَعْقُولِ بِأَنْ يَقُولَ قَدْ وَجَدْنَا مِنْ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَلْحَقَ بَعْدُ، ثُمَّ الْعَقْلُ فِي سُقُوطِ التَّكْلِيفِ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ سُقُوطِ الْخِطَابِ عَنْهُ شَرْعًا كَالصَّبِيِّ الْعَاقِلِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعَقْلَ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْعِ وَحِينَئِذٍ كَانَ مُتَنَاقِضًا فِي مَذْهَبِهِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِالْعَقْلِ أَنَّ الْعَقْلَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَصَارَ كَأَنَّهُ يَقُولُ الْعَقْلُ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ ثُمَّ رَدَّ قَوْلَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ فَقَالَ وَإِنَّ الْعَقْلَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ.

وَيَجُوزُ بِفَتْحِهَا أَيْضًا عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا يَجِدُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَيْ لَا يَسْتَقِيمُ أَيْضًا جَعْلُهُ حُجَّةً مُوجِبَةً بِنَفْسِهِ لِأَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>