للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(بَابُ خَبَرِ الْوَاحِدِ)

وَهُوَ الْفَصْلُ الثَّالِثُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ كُلُّ خَبَرٍ يَرْوِيهِ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ فَصَاعِدًا لَا عِبْرَةَ لِلْعَدَدِ فِيهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ دُونَ الْمَشْهُورِ وَالْمُتَوَاتِرِ، وَهَذَا يُوجِبُ الْعَمَلَ وَلَا يُوجِبُ الْعِلْمَ يَقِينًا عِنْدَنَا، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَا يُوجِبُ الْعَمَلَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ، وَلَا عَمَلَ إلَّا عَنْ عِلْمٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: ٣٦] ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ مَوْصُوفٌ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ فَلَا ضَرُورَةَ لَهُ فِي التَّجَاوُزِ عَنْ دَلِيلٍ يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ بِخِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ ضَرُورَاتِنَا وَكَذَلِكَ الرَّأْيُ مِنْ ضَرُورَاتِهَا فَاسْتَقَامَ أَنْ يَثْبُتَ غَيْرُ مُوجِبِ عِلْمِ الْيَقِينِ

ــ

[كشف الأسرار]

الْمَأْثَمُ. وَقِسْمٌ لَا يُخْشَى عَلَى جَاحِدِهِ الْمَأْثَمُ، وَلَكِنْ يُخَطَّأُ فِي ذَلِكَ مِثْلُ الْأَخْبَارِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ فِيهَا فِي كُلِّ قَرْنٍ كَانَ لِكُلِّ مَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ جَانِبُ الصِّدْقِ أَنْ يُخَطِّئَ صَاحِبَهُ، وَلَكِنْ لَا يُؤَثَّمُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ إلَيْهِ عَنْ اجْتِهَادٍ، وَالْإِثْمُ فِي الْخَطَأِ مَوْضُوعٌ عَنْ الْمُجْتَهِدِ كَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

[بَابُ خَبَرِ الْوَاحِدِ]

(بَابُ خَبَرِ الْوَاحِدِ) وَهُوَ الْفَصْلُ الثَّالِثُ، وَهُوَ الِاتِّصَالُ الَّذِي فِيهِ شُبْهَةٌ صُورَةً وَمَعْنًى مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الِاتِّصَالُ أَمَّا ثُبُوتُ الشُّبْهَةِ فِيهِ صُورَةً فَلِأَنَّ الِاتِّصَالَ بِالرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَثْبُتْ قَطْعًا.، وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ مَا تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ. وَهُوَ كُلُّ خَبَرٍ يَرْوِيهِ الْوَاحِدُ أَيْ الْمُخْبِرُ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ أَيْ أَوْ الِاثْنَانِ. لَا عِبْرَةَ لِلْعَدَدِ فِيهِ يَعْنِي لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ حُكْمًا، وَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ مُتَعَدِّدًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ التَّوَاتُرِ وَالِاشْتِهَارِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ وَالْوَاحِدِ فَقُبِلَ خَبَرُ الِاثْنَيْنِ دُونَ الْوَاحِدِ. وَبَعْضُهُمْ قَبِلَ خَبَرَ الْأَرْبَعَةِ دُونَ مَا عَدَاهَا فَسَوَّى الشَّيْخُ بَيْنَ الْكُلِّ قَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ خَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعَمَلَ، وَلَا يُوجِبُ الْعِلْمَ يَقِينًا أَيْ لَا يُوجِبُ عِلْمَ يَقِينٍ، وَلَا عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَجُمْلَةِ الْفُقَهَاءِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ أَصْلًا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ لَا يُوجِبُ الْعَمَلَ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ أَبَى جَوَازَ الْعَمَلِ بِهِ عَقْلًا مِثْلَ الْجُبَّائِيُّ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ سَمْعًا مِثْلَ الْقَاشَانِيِّ، وَأَبِي دَاوُد وَالرَّافِضَةِ. وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ عَنْهُ سَمْعًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: ٣٦] . أَيْ لَا تَتْبَعْ مَا لَا عِلْمَ لَك بِهِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ فَلَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ بِظَاهِرِ هَذَا النَّصِّ. قَالُوا، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّ الْعِلْمَ ذُكِرَ نَكِرَةً فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَيَقْتَضِي انْتِفَاءَهُ أَصْلًا وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ نَوْعَ عِلْمٍ، وَهُوَ عِلْمُ غَالِبِ الظَّنِّ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى عِلْمًا فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: ١٠] . فَلَا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ؛ لِأَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يُفِيدُ الظَّنَّ فَهُوَ مُحَرَّمُ الِاتِّبَاعِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: ٢٨] . ثُمَّ أَشَارَ الشَّيْخُ إلَى شُبْهَةِ مَنْ مَنَعَ عَنْهُ عَقْلًا بِقَوْلِهِ، وَهَذَا أَيْ عَدَمُ جَوَازِ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ أَيْ مَنْ يَتَوَلَّى وَضْعَ الشَّرَائِعِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى إذْ الرَّسُولُ مُبَلِّغٌ عَنْهُ مَوْصُوفٌ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ فَكَانَ قَادِرًا عَلَى إثْبَاتِ مَا شَرَعَهُ بِأَوْضَحِ دَلِيلٍ فَأَيُّ ضَرُورَةٍ لَهُ فِي التَّجَاوُزِ عَنْ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ إلَى مَا لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ. كَيْفَ، وَأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى مَفْسَدَةٍ عَظِيمَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْوَاحِدَ لَوْ رَوَى خَبَرًا فِي سَفْكِ دَمٍ أَوْ اسْتِحْلَالِ بُضْعٍ وَرُبَّمَا يَكْذِبُ فَنَظَرَ أَنَّ السَّفْكَ وَالْإِبَاحَةَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَكُونَانِ بِأَمْرِهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ الْهُجُومُ بِالْجَهْلِ، وَمَنْ شَكَكْنَا فِي إبَاحَةِ بُضْعِهِ وَسَفْكِ دَمِهِ لَا يَجُوزُ الْهُجُومُ بِالشَّكِّ فَيَقْبُحُ مِنْ الشَّارِعِ حَوَالَةُ الْخَلْقِ عَلَى الْجَهْلِ، وَاقْتِحَامُ الْبَاطِلِ بِالتَّوَهُّمِ بَلْ إذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَمْرٍ فَلْيُعَرِّفْنَا أَمْرَهُ لِنَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ إمَّا مُمْتَثِلُونَ أَوْ مُخَالِفُونَ. بِخِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُقْبَلُ فِيهَا بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِنَا أَيْ قَبُولَهُ فِيهَا مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّا نَعْجِزُ عَنْ إظْهَارِ كُلِّ حَقٍّ لَنَا بِطَرِيقٍ لَا يَبْقَى فِيهِ شُبْهَةٌ فَلِهَذَا جَوَّزْنَا الِاعْتِمَادَ فِيهَا عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ.

وَقَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ الرَّأْيُ مِنْ ضَرُورَاتِنَا جَوَابٌ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِالْقِيَاسِ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>