(بَابُ بَيَانِ مَحِلِّ النَّسْخِ) مَحِلُّ النَّسْخِ حُكْمٌ يَحْتَمِلُ بَيَانَ الْمُدَّةِ وَالْوَقْتِ وَذَلِكَ بِوَصْفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِهِ مُحْتَمِلًا لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، فَإِذَا كَانَ بِخِلَافِهِ لَمْ يَحْتَمِلْ النَّسْخَ، وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مُلْحَقًا بِهِ مَا يُنَافِي الْمُدَّةَ وَالْوَقْتَ أَمَّا الْأَوَّلُ فَبَيَانُهُ أَنَّ الصَّانِعَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ قَدِيمٌ لَا يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ وَالْعَدَمَ فَلَا يَحْتَمِلُ شَيْءٌ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ النَّسْخَ بِحَالٍ.
ــ
[كشف الأسرار]
مَنْ وَضَعَ لَهُمْ ذَلِكَ ابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ لِيُعَارِضَ بِهِ دَعْوَى الرِّسَالَةِ مِنْ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَقْرَبُ قَاطِعٍ فِي بُطْلَانِهِ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ لَمْ يَحْتَجَّ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى دَفْعِ قَوْلِهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا عِنْدَهُمْ لَقَضَتْ الْعَادَةُ بِالِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَاشْتُهِرَ مِنْهُمْ كَمَا اُشْتُهِرَ سَائِرُ أُمُورِهِمْ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} [فصلت: ٤٢] الْآيَةَ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يُبْطِلُهُ وَلَا يَأْتِيهِ مِنْ بَعْدِهِ مَا يُبْطِلُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[بَابُ بَيَانِ مَحِلِّ النَّسْخِ]
لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ النَّسْخَ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ كَانَ رَفْعًا لَهُ فِي الظَّاهِرِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحِلُّهُ حُكْمًا يَحْتَمِلُ الْمُدَّةَ وَالْوَقْتَ أَيْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُوَقَّتًا إلَى غَايَةٍ وَأَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ احْتِمَالًا عَلَى السَّوَاءِ لِيَكُونَ النَّسْخُ بَيَانًا لِمُدَّتِهِ وَذَلِكَ أَيْ كَوْنُهُ مُحْتَمِلًا لِلتَّوْقِيتِ يَحْصُلُ بِوَصْفَيْنِ أَيْ بِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِ النَّسْخُ مُحْتَمِلًا فِي نَفْسِهِ لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ أَيْ مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا وَأَنْ لَا يَكُونَ مَشْرُوعًا إذْ لَوْ لَمْ يَحْتَمِلْ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا كَالْكُفْرِ لَاسْتَمَرَّ عَدَمُ شَرْعِيَّتِهِ وَالنَّسْخُ لَا يَجْرِي فِي الْمَعْدُومِ وَلَوْ لَمْ يَحْتَمِلْ أَنْ لَا يَكُونَ مَشْرُوعًا كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ لَاسْتَمَرَّ شَرْعِيَّتُهُ ضَرُورَةً فَلَا يَجْرِي فِيهِ النَّسْخُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ النَّسْخَ تَوْقِيتٌ وَرَفْعٌ وَذَلِكَ مُنَافٍ لَمَّا لَزِمَ اسْتِمْرَارُ وُجُودِهِ.
وَالثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِحَيْثُ يَلْحَقُ بِهِ مَا يُنَافِي الْمُدَّةَ وَالْوَقْتَ أَيْ مَا يُنَافِي بَيَانَ الْمُدَّةِ بِالنَّسْخِ يَعْنِي لَمْ يَلْتَحِقْ بِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مُحْتَمِلًا لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ مَا يَمْتَنِعُ لِخَوْفِ النَّسْخِ الَّذِي هُوَ بَيَانُ مُدَّةِ الْمَشْرُوعِيَّةِ بِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ بِاعْتِبَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ الْأَوَّلِ وَإِلَيْهِ أُشِيرَ فِي قَوْلِهِ وَإِذَا كَانَ بِخِلَافِهِ لَمْ يَحْتَمِلْ النَّسْخَ فَبَيَانُهُ أَنَّ الصَّانِعَ جَلَّ جَلَالُهُ بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ أَيْ مَعَ جَمِيعِهَا مِثْلُ الرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ وَالْعَلِيمِ وَالْحَكِيمِ وَصِفَاتِهِ مِثْلُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ الَّتِي هِيَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ وَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ قَدِيمٌ دَائِمٌ أَزَلًا وَأَبَدًا فَلَا يَحْتَمِلُ شَيْءٌ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ النَّسْخَ بِحَالٍ أَيْ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ بِحَالٍ أَعْنِي فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ وَغَيْرِهَا.
الْحَاصِلُ أَنَّ النَّسْخَ لَا يَجْرِي فِي وَاجِبَاتِ الْعُقُولِ، وَإِنَّمَا يَجْرِي فِي جَائِزَاتِهَا وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزْ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ النَّسْخَ فِي مَدْلُولِ الْخَبَرِ مَاضِيًا كَانَ أَوْ مُسْتَقْبَلًا؛ لِأَنَّ تَحَقُّقَ الْمَخْبَرِ بِهِ فِي خَبَرِ مَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ وَالْخُلْفُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالنَّسْخُ فِيهِ يُؤَدِّي إلَى الْكَذِبِ وَالْخُلْفِ فَلَا يَجُوزُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ بِجَوَازِهِ فِي الْخَبَرِ مُطْلَقًا إذَا كَانَ مَدْلُولُهُ مُتَكَرِّرًا وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ عَامًّا كَمَا لَوْ قَالَ عَمَّرْت زَيْدًا أَلْفَ سَنَةٍ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ تِسْعَمِائَةٍ أَوْ قَالَ لَأُعَذِّبَنَّ الزَّانِيَ أَبَدًا ثُمَّ قَالَ: أَرَدْت بِهِ أَلْفَ سَنَةٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ النَّاسِخُ مُبَيِّنًا أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ ذَلِكَ الْمَدْلُولِ كَمَا فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَكَرِّرًا نَحْوُ قَوْلِهِ أَهْلَكَ اللَّهُ زَيْدًا ثُمَّ قَوْلِهِ مَا أَهْلَكَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَلَوْ أَخْبَرَ عَنْ إعْدَامِهِ وَإِيجَادِهِ جَمِيعًا كَانَ تَنَاقُضًا وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ فَمَنَعَهُ فِي الْمَاضِي وَجَوَّزَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ الْمُتَحَقِّقَ فِي الْمَاضِي لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ بِخِلَافِ الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مَنْعُهُ مِنْ الثُّبُوتِ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute