للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْكَلَامُ مُتَّسِقٌ فَيَصِحُّ الْوَصْلُ لِبَيَانِ أَنَّهُ نَفْيُ السَّبَبِ لَا الْوَاجِبِ.

وَأَمَّا أَوْ فَإِنَّهَا تَدْخُلُ بَيْنَ اسْمَيْنِ أَوْ فِعْلَيْنِ فَيَتَنَاوَلُ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ هَذَا مَوْضُوعَهَا الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ يُقَالُ جَاءَنِي زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو أَيْ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُوضَعْ لِلشَّكِّ وَلَيْسَ الشَّكُّ بِأَمْرٍ مَقْصُودٍ يُقْصَدُ بِالْكَلَامِ وَضْعًا لَكِنَّهَا وُضِعَتْ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ اُسْتُعْمِلَتْ فِي الْخَبَرِ تَنَاوَلَتْ أَحَدَهُمَا غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَأَفْضَى إلَى الشَّكِّ وَإِذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي الِابْتِدَاءِ وَالْإِنْشَاءِ تَنَاوَلَتْ أَحَدَهُمَا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ تَقُولُ رَأَيْت زَيْدًا أَوْ عَمْرًا فَيَكُونُ لِلتَّخْيِيرِ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ لَا يَحْتَمِلُ الشَّكَّ فَعَلِمْت أَنَّ الشَّكَّ إنَّمَا جَاءَ مِنْ قِبَلِ مَحَلِّ الْكَلَامِ

ــ

[كشف الأسرار]

عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْقَرْضِ حَيْثُ لَا تُقْبَلُ وَإِنْ اتَّفَقَا فِي الْأَصْلِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَصِيرُ مُكَذِّبًا أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ فِي بَعْضِ مَا شَهِدَ بِهِ وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلشَّهَادَةِ فَأَمَّا تَكْذِيبُ الْمُقَرِّ لَهُ لِلْمُقِرِّ فِي بَعْضِ مَا أَقَرَّ فَلَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْإِقْرَارِ فَافْتَرَقَا وَقَوْلُهُ الْكَلَامُ مُتَّسِقٌ أَيْ كَلَامُ الْمُقَرِّ لَهُ مَعَ كَلَامِ الْمُقِرِّ مُتَوَافِقَانِ لَا مُتَنَافِيَانِ لِأَنَّهُمَا تَوَافَقَا فِي أَصْلِ الْوَاجِبِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي السَّبَبِ.

[معانى أَوْ]

قَوْلُهُ (وَأَمَّا أَوْ) اعْلَمْ أَنَّ كَلِمَةَ أَوْ تَدْخُلُ بَيْنَ اسْمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ كَقَوْلِك جَاءَنِي زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو أَوْ بَيْنَ فِعْلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: ٨٠] وَقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} [النساء: ٦٦] وَكَقَوْلِك كُلْ السَّمَكَ أَوْ اشْرَبْ اللَّبَنَ فَيَتَنَاوَلُ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ هَذَا مُوجَبُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْوَضْعِ لِأَنَّهَا فِي مَوَاضِعِ اسْتِعْمَالِهَا لَا تَخْلُو عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فَعَرَفْنَا أَنَّهَا وُضِعَتْ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: ٨٩] وَالْوَاجِبُ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ حَتَّى لَوْ كَفَّرَ بِالْأَنْوَاعِ كُلِّهَا كَانَ مُؤَدِّيًا بِأَحَدِ الْأَنْوَاعِ لَا بِالْجَمِيعِ كَمَا قَالَهُ الْبَعْضُ.

وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: ١٩٦] الْوَاجِبُ وَاحِدٌ مِنْهَا وَكَذَا الْجَائِي فِي قَوْلِك جَاءَنِي زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو أَحَدُهُمَا لَا كِلَاهُمَا قَوْلُهُ (وَلَمْ يُوضَعْ لِلشَّكِّ) نَفْيٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي التَّقْوِيمِ أَنَّ كَلِمَةَ أَوْ عِنْدَ عَامَّةِ النَّاسِ لِلتَّخْيِيرِ فِي الْإِثْبَاتِ وَلِلنَّفْيِ فِي النَّفْيِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّ كَلِمَةَ أَوْ كَلِمَةُ تَشْكِيكٍ فَإِنَّك إذَا قُلْت رَأَيْت زَيْدًا أَوْ عَمْرًا لَا تَكُونُ مُخْبِرًا عَنْ رُؤْيَتِهِمَا جَمِيعًا وَلَكِنَّك تَكُونُ مُخْبِرًا عَنْ رُؤْيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ الشَّكِّ فَإِنَّك قَدْ رَأَيْت أَحَدَهُمَا وَلَكِنَّك شَكَكْت فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ مِنْهُمَا حَتَّى احْتَمَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَرْئِيُّ وَأَنْ لَا يَكُونَ إلَّا أَنَّهَا إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي الْإِيجَابَاتِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي لَمْ تُوجِبْ شَكًّا لِأَنَّ الشَّكَّ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْتِبَاسِ الْعِلْمِ بِشَيْءٍ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْإِخْبَارَاتِ فَأَمَّا الْإِنْشَاءَاتُ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا شَكٌّ وَلَا الْتِبَاسٌ لِأَنَّهَا لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ ابْتِدَاءً وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ مَذْهَبُ عَامَّةِ النُّحَاةِ وَخَالَفَهُ الشَّيْخُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ لَيْسَتْ لِلتَّشْكِيكِ لِأَنَّ الشَّكَّ لَيْسَ بِمَعْنًى يُقْصَدُ بِالْكَلَامِ وَضْعًا أَيْ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي الْمُخَاطَبَاتِ بِحَيْثُ يُوضَعُ كَلِمَةً تُوجِبُ تَشْكِيكَ السَّامِعِ فِي مَعْنَى الْكَلَامِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّكَّ لَيْسَ بِمَعْنًى يُوضَعُ لَهُ لَفْظٌ لِأَنَّ لَفْظَ الشَّكِّ قَدْ وُضِعَ لِمَعْنَاهُ بَلْ الْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا.

وَذَلِكَ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْكَلَامِ إفْهَامُ السَّامِعِ لَا تَشْكِيكُهُ فَلَا يَكُونُ الشَّكُّ مِنْ مَقَاصِدِهِ فَلَا يَكُونُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ مَوْضُوعَةً لِذَلِكَ بَلْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ لِأَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ غَيْرِ عَيْنٍ كَمَا قُلْنَا إلَّا أَنَّهَا فِي الْإِخْبَارَاتِ يُفْضِي إلَى الشَّكِّ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ مَجِيءِ أَحَدِهِمَا فِي قَوْلِهِ جَاءَنِي زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِعْلَ الْمَجِيءِ وُجِدَ مِنْ أَحَدِهِمَا عَيْنًا لَا نَكِرَةً إذْ لَا تَصَوُّرَ لِصُدُورِ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ الْعَيْنِ وَبِإِضَافَةِ الْفِعْلِ إلَى أَحَدِهِمَا غَيْرِ عَيْنٍ لَا يَنْتَقِلُ الْفِعْلُ مِنْ الْعَيْنِ إلَى النَّكِرَةِ بَلْ يَبْقَى مُضَافًا إلَى الْعَيْنِ كَمَا وُجِدَ وَإِنَّمَا جَهِلَهُ السَّامِعُ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الَّذِي وُجِدَ مِنْهُ فِعْلُ الْمَجِيءِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّشْكِيكَ إنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمًا وَاتِّفَاقًا بِكَوْنِ الْكَلَامِ خَبَرًا لَا مَقْصُودًا بِحَرْفِ أَوْ كَالْهِبَةِ وُضِعَتْ لِإِفَادَةِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ ثُمَّ إذَا أُضِيفَ إلَى الدَّيْنِ يَكُونُ إسْقَاطًا حُكْمًا وَاتِّفَاقًا لَا مَقْصُودًا بِالْهِبَةِ أَلَا تَرَى

<<  <  ج: ص:  >  >>