وَأَمَّا إرْسَالُ مَنْ دُونَ هَؤُلَاءِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا يُقْبَلُ إرْسَالُ كُلِّ عَدْلٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يُقْبَلُ أَمَّا وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَمَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الزَّمَانَ زَمَانُ فِسْقٍ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ إلَّا أَنْ يَرْوِيَ الثِّقَاتُ مُرْسَلَهُ كَمَا رَوَوْا مُسْنَدَهُ مِثْلَ إرْسَالِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَمْثَالِهِ.
وَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَخِيرُ فَقَدْ رَدَّ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ الِاتِّصَالَ بِالِانْقِطَاعِ وَعَامَّتُهُمْ عَلَى أَنَّ الِانْقِطَاعَ يُجْعَلُ عَفْوًا بِالِاتِّصَالِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
، وَأَمَّا الِانْقِطَاعُ الْبَاطِلُ فَنَوْعَانِ
ــ
[كشف الأسرار]
وَقَوْلُهُمْ لَوْ جَازَ الْعَمَلُ بِالْمَرَاسِيلِ لَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِيثَاقِ وَالتَّفَحُّصِ عَنْ عَدَالَةِ الرُّوَاةِ فَائِدَةٌ: قُلْنَا: فَائِدَتُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إذَا أَسْنَدَ أَمْكَنَ لِلسَّامِعِ الْفَحْصُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ فَيَكُونُ ظَنُّهُ بِعَدَالَتِهِمْ آكَدَ مِنْ ظَنِّهِ بِهَا عِنْدَ الْإِرْسَالِ؛ لِأَنَّ ظَنَّ الْإِنْسَانِ إلَى فَحْصِهِ وَخِبْرَتِهِ أَقْوَى مِنْ طُمَأْنِينَتِهِ إلَى خِبْرَةِ غَيْرِهِ وَهَذَا يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُرْسَلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ حَالُ مَنْ أَخْبَرَهُ بِهِ فَلَا يُقْدِمُ عَلَى جُرْحِهِ وَتَزْكِيَتِهِ فَيَذْكُرُهُ لِيَتَفَحَّصَ عَنْهُ غَيْرُهُ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اشْتِغَالُ النَّاسِ بِالْإِسْنَادِ كَاشْتِغَالِهِمْ بِالتَّكَلُّفِ لِسَمَاعِ الْخَبَرِ مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ حُجَّةً فَكَذَلِكَ اشْتِغَالُهُمْ بِالْإِسْنَادِ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمُرْسَلَ لَا يَكُونُ حُجَّةً.
[إرْسَالُ كُلِّ عَدْلٍ]
قَوْلُهُ (وَأَمَّا إرْسَالُ مَنْ دُونَ هَؤُلَاءِ) أَيْ دُونِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ: يُقْبَلُ إرْسَالُ كُلِّ عَدْلٍ فِي كُلِّ عَصْرٍ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي تُوجِبُ قَبُولَ مَرَاسِيلِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الْعَدَالَةُ وَالضَّبْطُ تَشْمَلُ سَائِرَ الْقُرُونِ، وَقَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ لَا يُقْبَلُ إلَّا مَرَاسِيلُ مَنْ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ النَّقْلِ مَشْهُورًا بِأَخْذِ النَّاسِ الْعِلْمَ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَكَانَ عَدْلًا لَا يُقْبَلُ مُسْنَدُهُ وَيُوقَفُ مُرْسَلُهُ إلَى أَنْ يُعْرَضَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ: لَا يُقْبَلُ إرْسَالُ مَنْ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ إلَّا إذَا اُشْتُهِرَ بِأَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَمَّنْ هُوَ عَدْلٌ ثِقَةٌ لِشَهَادَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى مَنْ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ بِالْكَذِبِ بِقَوْلِهِ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ فَلَا يَثْبُتُ عَدَالَةُ مَنْ كَانَ فِي زَمَنٍ شَهِدَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى أَهْلِهِ بِالْكَذِبِ إلَّا بِرِوَايَةِ مَنْ كَانَ مَعْلُومَ الْعَدَالَةِ بِعِلْمِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ عَدْلٍ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَذَكَرَ فِي الْمُعْتَمَدِ إذَا قَالَ الْإِنْسَانُ فِي عَصْرِنَا: قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَذَا يُقْبَلُ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْخَبَرُ مَعْرُوفًا فِي جُمْلَةِ الْأَحَادِيثِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا لَا يُقْبَلُ لَا لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ بَلْ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ قَدْ ضُبِطَتْ وَجُمِعَتْ فَمَا لَا يَعْرِفُهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ مِنْهَا فِي وَقْتِنَا هَذَا فَهُوَ كَذِبٌ وَإِنْ كَانَ الْعَصْرُ الَّذِي أُرْسِلَ فِيهِ الْمُرْسَلُ عَصْرًا لَمْ يُضْبَطْ فِيهِ السُّنَنُ قُبِلَ مُرْسَلُهُ.
قَوْلُهُ (إلَّا أَنْ يَرْوِيَ الثِّقَاتُ مُرْسَلَهُ كَمَا رَوَوْا مُسْنَدَهُ) بِالْإِضَافَةِ وَالْهَاءُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَا يُقْبَلُ وَمَعْنَاهُ لَا يُقْبَلُ مُرْسَلٌ مِنْ بَعْدِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ إلَّا إذَا رَوَى الثِّقَاتُ مُرْسَلَهُ عَنْهُ وَقَبِلُوهُ كَمَا رَوَوْا مُسْنَدَهُ فَحِينَئِذٍ يُقْبَلُ ذَلِكَ الْمُرْسَلُ؛ لِأَنَّ رِوَايَةَ الثِّقَاتِ عَنْهُ وَقَبُولَهُمْ ذَلِكَ الْمُرْسَلَ تَعْدِيلٌ لَهُ وَشَهَادَةٌ عَلَى اتِّصَالِ الْمُرْسَلِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُقْبَلُ كَإِرْسَالِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ عِيسَى بْنِ أَبَانَ يُوقَفُ إلَى أَنْ يُعْرَضَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ وَاخْتَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
[الِاتِّصَالَ بِالِانْقِطَاعِ]
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَخِيرُ) وَهُوَ مَا أُرْسِلَ مِنْ وَجْهٍ وَاتَّصَلَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ أَسْنَدَهُ هَذَا الْمُرْسِلُ أَوْ غَيْرُهُ فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ الْمَرَاسِيلَ لَا يَقْبَلُ هَذَا الْخَبَرَ وَإِنْ أَسْنَدَهُ هَذَا الرَّاوِي؛ لِأَنَّ إرْسَالَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ الرَّاوِيَ لِضَعْفٍ فِيهِ فَسَتَرَهُ لَهُ وَالْحَالُ هَذِهِ خِيَانَةٌ مِنْهُ فَلَمْ يُقْبَلْ وَهَذَا لَمْ يَقْبَلْ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ سَائِرَ مَسَانِيدِ هَذَا الْمُرْسَلِ وَجَعَلُوهُ بِالْإِرْسَالِ سَاقِطَ الْحَدِيثِ وَعَامَّتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ هَذَا الْمُسْنَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَسَانِيدِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ الْحَدِيثَ مُسْنَدًا وَنَسِيَ مَنْ يَرْوِي عَنْهُ، وَقَدْ عَلِمَ