للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَثْنَى عَلَى مَنْ أَسْنَدَ إلَيْهِ خَيْرًا وَلَمْ يَعْرِفْهُ بِمَا يَقَعُ لَنَا الْعِلْمُ بِهِ صَحَّتْ رِوَايَتُهُ فَكَذَلِكَ هَذَا.

ــ

[كشف الأسرار]

كَمَا بَيَّنَّا وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ الْأُخَرِ لَيْسَ بِمَانِعٍ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْعَنْعَنَةَ كَافِيَةٌ فِي الرِّوَايَةِ وَتِلْكَ الِاحْتِمَالَاتُ مَوْجُودَةٌ فِيهَا؛ فَإِنَّ مَنْ قَالَ: رَوَى فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَع فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ بَلْ بَلَغَهُ بِوَاسِطَةٍ هِيَ مَجْهُولَةٌ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ تِلْكَ الْوَاسِطَةَ لَا يَكُونُ عَدْلًا أَوْ يَكُونُ عَدْلًا عِنْدَ الرَّاوِي غَيْرَ عَدْلٍ عِنْدَ الْمَرْوِيِّ لَهُ وَمَعَ هَذَا يُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَلِكَ هَذَا.

وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ اشْتِرَاطِ انْضِمَامِ بَعْضِ مَا ذَكَرْنَا إلَى الْمُرْسَلِ لِقَبُولِهِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمُنْضَمَّ إلَيْهِ إنْ كَانَ حُجَّةً بِنَفْسِهِ يَكُونُ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِهِ وَلَا يَكُونُ لِلْمُرْسَلِ تَأْثِيرٌ فِي مُقَابَلَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فَاقْتِرَانُهُ إلَى مَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ لَا يُفِيدُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْضَمَّ مَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ إلَى مَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَيَصِيرُ حُجَّةً كَذَا فِي الْمُعْتَمَدِ. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الظَّنَّ قَدْ يَحْصُلُ أَوْ يَتَقَوَّى بِانْضِمَامِ مَا لَا يُفِيدُ الظَّنَّ إلَى مِثْلِهِ كَانْضِمَامِ شَاهِدٍ إلَى شَاهِدٍ وَكَانْضِمَامِ أَخْبَارِ آحَادٍ إلَى أَمْثَالِهَا يُفِيدُ الْعِلْمَ.

قَوْلُهُ (أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَثْنَى عَلَى مَنْ أَسْنَدَ إلَيْهِ خَيْرًا وَلَمْ يَعْرِفْهُ) يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّاوِيَ إذَا ذَكَرَ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ، وَقَالَ: هُوَ ثِقَةٌ عِنْدِي أَوْ عَدْلٌ لَزِمَ قَبُولُ خَبَرِهِ بِالِاتِّفَاقِ كَذَا فِي الْمُعْتَمَدِ وَالْقَوَاطِعِ وَلَا يَلْزَمُ التَّفَحُّصُ عَنْ حَالِهِ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّهُ لَوْ تَفَحَّصَ عَنْهَا يَقِفُ عَلَى بَعْضِ أَسْبَابِ الْجُرْحِ أَوْ يَقِفُ عَلَى مَا لَمْ يَعُدَّهُ الرَّاوِي جُرْحًا، وَهُوَ جُرْحٌ عِنْدَهُ، فَكَذَا هَذَا. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الضَّمِيرُ الْبَارِزُ فِي لَمْ يَعْرِفْهُ رَاجِعًا إلَى الْخَيْرِ.

وَالثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّ الرَّاوِيَ إذَا أَبْهَمَ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا بِأَنْ قَالَ حَدَّثَنِي الثِّقَةُ أَوْ سَمِعْته عَنْ عَدْلٍ أَوْ أَخْبَرَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُهُ صَحَّتْ الرِّوَايَةُ وَيَكُونُ الْخَبَرُ مَقْبُولًا، فَكَذَا إذَا أَرْسَلَ يَكُونُ مَقْبُولًا؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ مَعَ السُّكُوتِ عَنْ الطَّعْنِ فِي الْمَرْوِيِّ عَنْهُ تَعْدِيلٌ لَهُ أَيْضًا، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ إلْزَامًا عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ الشَّرْطَ عِنْدَهُمْ أَنْ يُسَمِّيَ الرَّاوِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الرُّوَاةِ بِاسْمِهِ الْمَشْهُورِ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ لِيَثْبُتَ الِاتِّصَالُ فَيَكُونُ هَذَا مِنْ الشَّيْخِ رَدًّا لِلْمُخْتَلِفِ إلَى الْمُخْتَلِفِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ، أَوْ يَكُونُ إلْزَامًا عَلَى الشَّافِعِيِّ؛ فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ حَدَّثَنِي الثِّقَةُ حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُهُ ثُمَّ لَمْ يَقْبَلْ الْمُرْسَلَ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَاهُ وَرَأَيْت فِي بَعْضِ كُتُبِهِمْ أَنَّهُ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اُشْتُهِرَ مَنْ عَنَاهُ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْكَلَامِ فَأَرَادَ بِمَنْ يَثِقُ بِهِ إبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ وَبِمَنْ لَا يَتَّهِمُهُ يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ فَصَارَتْ الْكِنَايَةُ كَالتَّسْمِيَةِ وَقِيلَ: إنَّهُ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ احْتِجَاجًا لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَقُلْهُ احْتِجَاجًا عَلَى خَصْمِهِ وَلَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا يَثِقُ بِصِحَّتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَخْلُو عَنْ تَكَلُّفٍ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إلَى مَنْ.

وَقَوْلُهُمْ إذَا سَمَّى الْمَرْوِيَّ عَنْهُ وَلَمْ يُعَدِّلْهُ وَبَقِيَ مَجْهُولًا لَمْ يَقْبَلْهُ قُلْنَا عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا: يُقْبَلُ خَبَرُهُ إذَا كَانَ الرَّاوِي عَدْلًا وَيَكُونُ رِوَايَتُهُ مَعَ السُّكُوتِ عَنْ الْجُرْحِ تَعْدِيلًا لَهُ كَمَا لَوْ قَالَ هُوَ عَدْلٌ صَرِيحًا وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُرْسِلَ قَدْ حَكَمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ وَالْعَدْلُ الْمُتَدَيِّنُ لَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ إلَّا إذَا كَانَ مَنْ سَمِعَهُ عَنْهُ ثِقَةً عِنْدَهُ فَيَكُونُ هَذَا تَعْدِيلًا عَنْهُ تَقْدِيرًا بِخِلَافِ مَا إذَا سَمَّاهُ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِذَلِكَ بَلْ يَنْسُبُ ذَلِكَ إلَى الْمُخْبِرِ الَّذِي سَمَّاهُ فَلَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ عَدْلٌ عِنْدَهُ بَلْ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ مَسْتُورًا عِنْدَهُ يَرْوِي عَنْهُ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ حَالِهِ وَفَوَّضَ تَعَرُّفَ حَالِهِ إلَى السَّامِعِ حَقِيقَةً حَيْثُ ذَكَرَ اسْمَهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>