للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَإِذَا أُرِيدَ بِالْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ أَوْ النَّدْبُ فَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: وَالْجَصَّاصُ: بَلْ هُوَ مَجَازٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْحَقِيقَةِ لَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَلَمَّا جَازَ أَنْ يُقَالَ إنِّي غَيْرُ مَأْمُورٍ بِالنَّفْلِ دَلَّ أَنَّهُ مَجَازٌ لِأَنَّهُ جَازَ أَصْلَهُ وَتَعَدَّاهُ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ أَوْ النَّدْبِ مِنْ الْوُجُوبِ بَعْضُهُ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ قَاصِرٌ لَا مُغَايِرٌ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَنْتَظِمُهُ وَهَذَا أَصَحُّ

ــ

[كشف الأسرار]

أَنَّهُ مُحْكَمٌ) أَيْ نَحْنُ مَا أَنْكَرْنَا احْتِمَالَ صِيغَةِ الْأَمْرِ غَيْرَ مَا وُضِعَ لَهُ مِنْ الْوُجُوبِ حَيْثُ لَمْ نَقُلْ إنَّهُ مُحْكَمٌ وَلَكِنَّا أَنْكَرْنَا ثُبُوتَ الْمُحْتَمَلِ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ كَمَا حَقَّقْنَاهُ فِي أَوَّلِ بَابِ الْخُصُوصِ

[الْأَمْر إذَا أُرِيدَ بِهِ الْإِبَاحَةُ أَوْ النَّدْبُ]

قَوْلُهُ (وَإِذَا أُرِيدَ بِالْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ وَالنَّدْبُ) إلَى قَوْلِهِ، وَهَذَا أَصَحُّ، جَمَعَ الشَّيْخُ بَيْنَ الْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ وَبَيْنَ الْخِلَافِ فِيهِمَا عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ وَنَحْنُ نُبَيِّنُ كُلَّ فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ فَنَقُولُ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ فِي أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ بِهِ النَّدْبُ كَانَ حَقِيقَةً فِيهِ أَوْ مَجَازًا فَذَهَبَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهُ مَجَازٌ فِيهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الْجَصَّاصِ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَصَدْرِ الْإِسْلَامِ أَبِي الْيُسْرِ وَالْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.

، قَالَ أَبُو الْيُسْرِ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إنَّ الْأَمْرَ إذَا أُرِيدَ بِهِ النَّدْبُ فَهُوَ مَجَازٌ فِيهِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّيْخُ، وَشُبْهَتُهُمْ أَنَّ الْمَنْدُوبَ بَعْضُ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ وَالنَّدْبُ مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ، فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ النَّدْبُ فَقَدْ أُرِيدَ بِهِ بَعْضُ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ فَكَانَ حَقِيقَةً فِيهِ كَمَا لَوْ أُرِيدَ مِنْ الْعَامِ بَعْضُهُ يَكُونُ حَقِيقَةً فِيهِ وَكَمَا لَوْ أَطْلَقَ لَفْظَ الْإِنْسَانِ عَلَى الْأَعْمَى وَالْأَشَلِّ وَمَقْطُوعِ الرِّجْلِ يَكُونُ حَقِيقَةً؛ وَإِنْ فَاتَ بَعْضُهُ، وَكَيْفَ لَا وَمِنْ شَرْطِ الْمَجَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ مُغَايِرًا لِلْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ؛ لِأَنَّهُ جُزْؤُهُ إلَّا أَنَّهُ قَاصِرٌ فَكَيْفَ يَكُونُ اللَّفْظُ فِيهِ مَجَازًا؛ وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ ثُبُوتِ الْمَجَازِ انْتِفَاءُ الْحَقِيقَةِ بِالْكُلِّيَّةِ فَمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْحَقِيقَةِ لَا يَتَحَقَّقُ الشَّرْطُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْمَجَازُ وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْأَمْرَ حَقِيقَةٌ فِي الْإِيجَابِ، فَإِذَا اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهِ يَكُونُ مَجَازًا كَمَا لَوْ اُسْتُعْمِلَ فِي التَّهْدِيدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّدْبَ غَيْرُ الْإِيجَابِ أَنَّ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيجَابِ اسْتِحْقَاقُ الْعُقُوبَةِ عَلَى التَّرْكِ وَمِنْ لَوَازِمِ النَّدْبِ عَدَمُ اسْتِحْقَاقِهَا عَلَى التَّرْكِ وَبِاشْتِرَاكِهِمَا فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ لَا يَنْتَفِي هَذِهِ الْغَيْرِيَّةُ فَثَبَتَ أَنَّهُ مَجَازٌ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ نَفْيُهُ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ مَا أُمِرْت بِصَلَاةِ الضُّحَى وَلَا بِصَوْمِ أَيَّامِ الْحَيْضِ يَصِحُّ وَلَا يَكْذِبُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ مَا أُمِرْت بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَلَا بِصِيَامِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَكْذِبُ بَلْ يَكْفُرُ وَصِحَّةُ التَّكْذِيبِ وَالنَّفْيِ مِنْ خَوَاصِّ الْمَجَازِ، وَلَيْسَ هَذَا كَالْعَامِّ إذَا أُرِيدَ بِهِ بَعْضُهُ فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِشُمُولِ جَمْعٍ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ لَا لِاسْتِغْرَاقِهَا عِنْدَنَا وَالشُّمُولُ مَوْجُودٌ فِي الْبَعْضِ وَالْكُلِّ حَتَّى إنَّ مَنْ شَرَطَ الِاسْتِغْرَاقَ فِيهِ يَقُولُ إنَّهُ مَجَازٌ فِي الْبَعْضِ أَيْضًا.

، وَكَذَا لَفْظُ الْإِنْسَانِ مَوْضُوعٌ بِإِزَاءِ مَعْنَى الْإِنْسَانِيَّةِ وَبِالْعَمَى وَالشَّلَلِ لَا يُنْتَقَضُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِخِلَافِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلطَّلَبِ الْمَانِعِ مِنْ النَّقِيضِ وَالنَّدْبُ مُغَايِرٌ لَهُ لَا مَحَالَةَ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمَجَازِ انْتِفَاءُ الْحَقِيقَةِ بِالْكُلِّيَّةِ بَلْ الشَّرْطُ انْتِفَاءُ الْكُلِّيَّةِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِانْتِفَاءِ جُزْءٍ مِنْهَا كَمَا يَحْصُلُ بِانْتِفَاءِ كُلِّهَا، يُوَضِّحُهُ أَنَّ أَهْلَ اللِّسَانِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ جِهَاتِ الْمَجَازِ وَلَوْ كَانَ الِانْتِفَاءُ بِالْكُلِّيَّةِ شَرْطًا لَمَا صَحَّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ.

وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِهِ الْإِبَاحَةُ فَقَدْ ذَكَرَ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ فِي أُصُولِهِ أَنَّ الْمُبَاحَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ سِوَى طَائِفَةٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الْبَغْدَادِيَّةِ وَهَذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>