للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بَقِيَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وِلَايَةُ الدَّفْعِ كَمَا فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ هَذَا مَذْهَبُ عَامَّةِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ التَّابِعِينَ وَالصَّالِحِينَ وَعُلَمَاءِ الدِّينِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ؛ فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ بِالرَّأْيِ عَلَى الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ لِتَعْدِيَةِ أَحْكَامِهَا إلَى مَا لَا نَصَّ فِيهِ مَدْرَكٌ مِنْ مَدَارِك أَحْكَامِ الشَّرْعِ لَا حُجَّةٌ لِإِثْبَاتِهَا ابْتِدَاءً، وَقَالَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ: إنَّ الْقِيَاسَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَالْعَمَلُ بِهِ بَاطِلٌ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد الْأَصْبَهَانِيُّ وَغَيْرِهِ وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا دَلِيلَ مِنْ قِبَلِ الْعَقْلِ أَصْلًا وَالْقِيَاسُ قِسْمٌ مِنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا عَمَلَ لِدَلِيلِ الْعَقْلِ إلَّا فِي الْأُمُورِ الْعَقْلِيَّةِ دُونَ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ دَلِيلٌ ضَرُورِيٌّ وَلَا ضَرُورَةَ بِنَا إلَيْهِ لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ.

ــ

[كشف الأسرار]

بِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي بَعْدَ ظُهُورِ الْحُجَّةِ صَارَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ قَصْدًا وَصَارَ هُوَ بِنَفْسِهِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ ضِمْنًا حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ مِنْ دَعْوَاهُ لِنَفْسِهِ بَعْدَمَا حُكِمَ بِهِ لِلْمُدَّعِي وَكَمَا لَوْ قَضَى بِثُبُوتِ الرَّمَضَانِيَّةِ تَصِيرُ الْعَامَّةُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِمْ قَصْدًا وَنَفْسُهُ مُقْتَضَيًا عَلَيْهَا ضِمْنًا حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْعَامَّةِ فِي وُجُوبِ التَّكْلِيفِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ أَيْ الْقِيَاسُ بِشَرَائِطِهِ بَقِيَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وِلَايَةُ الدَّفْعِ كَمَا فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْإِلْزَامِ يَتَبَيَّنُ بِالْعَجْزِ عَنْ الدَّفْعِ وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ مَوْلَانَا شَمْسُ الدِّينِ الْكَرْدَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِثَالًا لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ فَقَالَ: الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ نَاقِضٌ لِلطَّهَارَةِ وَالشَّاهِدُ قَوْله تَعَالَى {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: ٤٣] وَصَلَاحِيَّتُهُ لِلشَّهَادَةِ كَوْنُهُ غَيْرَ مَخْصُوصٍ بِنَصٍّ آخَرَ وَشَهَادَتُهُ دَلَالَةُ وَصْفَيْ النَّجَاسَةِ وَالْخُرُوجِ عَلَى الِانْتِقَاضِ وَعَدَالَةُ الْوَصْفَيْنِ ظُهُورُ أَثَرِهِمَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ النَّصِّ بِالِاتِّفَاقِ كَوُجُوبِ غَسْلِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ إذَا تَعَدَّتْ عَنْ الْمَخْرَجِ وَانْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِالْخَارِجِ مِنْ السُّرَّةِ وَالطَّالِبُ هُوَ الْقَائِسُ وَالْمَطْلُوبُ انْتِقَاضُ الطَّهَارَةِ وَالْحَكَمُ الْقَلْبُ وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ الْبَدَنُ أَوْ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إلَّا أَنْ يُعَارِضَهُ نَفْسُهُ أَوْ الْخَصْمُ بِأَنَّ هَذَا وَإِنْ دَلَّ عَلَى الِانْتِقَاضِ إلَّا أَنَّ دَلِيلًا آخَرَ يَمْنَعُ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَاءَ فَلَمْ يَتَوَضَّأْ أَوْ احْتَجَمَ فَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَأَمْثَالُهُ.

[ثُبُوت الْقِيَاس وَأَنْوَاعه]

قَوْلُهُ (هَذَا) أَيْ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِيَاسَ مَدْرَكٌ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَذْهَبُ عَامَّةِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَيْ جَمِيعِهِمْ لِتَعْدِيَةِ أَحْكَامِهَا إلَى مَا لَا نَصَّ فِيهِ أَيْ لِإِثْبَاتِ مِثْلِ حُكْمِ النَّصِّ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ وَالْمُرَادُ مِنْ التَّعْدِيَةِ الْإِظْهَارُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ نَوْعَانِ عَقْلِيٌّ وَشَرْعِيٌّ فَالْعَقْلِيُّ مَا اُسْتُعْمِلَ فِي أُصُولِ الدِّيَانَاتِ.

وَقِيلَ فِي حَدِّهِ: هُوَ رَدُّ غَائِبٍ إلَى شَاهِدٍ لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ حُجَّةٌ وَطَرِيقٌ لِمَعْرِفَةِ الْعَقْلِيَّاتِ عِنْدَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ سِوَى طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْإِمَامِيَّةِ مِنْ الرَّوَافِضِ وَالْحَنَابِلَةِ الْمُشَبِّهَةِ وَالْخَوَارِجِ إلَّا النَّجْدَاتِ مِنْهُمْ وَهَؤُلَاءِ أَنْكَرُوا الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ أَيْضًا سِوَى الْحَنَابِلَةِ؛ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوهُ حُجَّةً فِي الْفُرُوعِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَا يُوجَدُ حُكْمُهَا فِي الْكِتَابِ بِخِلَافِ الْعَقْلِيَّاتِ؛ فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِيهَا لِوُجُودِهَا فِي الْكِتَابِ.

وَأَمَّا الشَّرْعِيُّ فَهُوَ الْقِيَاسُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا تَفْسِيرَهُ وَالْخِلَافُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي جَوَازِ التَّعْدِيَةِ عَقْلًا وَفِي وُقُوعِهِ شَرْعًا، فَعِنْدَ جَمِيعِ أَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ هُوَ جَائِزٌ عَقْلًا وَوَاقِعٌ سَمْعًا، وَقَالَتْ الشِّيعَةُ كُلُّهَا وَالْخَوَارِجُ سِوَى النَّجْدَاتِ مِنْهُمْ وَإِبْرَاهِيمَ النَّظَّامُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِهِ مُمْتَنِعٌ عَقْلًا وَهُمْ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَغَيْرِهِمْ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ دَاوُد بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيُّ وَابْنُهُ مُحَمَّدٌ وَجَمِيعُ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ وَالْقَاشَانِيُّ وَالنَّهْرَوَانِيّ: إنَّهُ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ عَقْلًا؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَوْ قَالَ مَثَلًا تَعَبَّدْتُكُمْ بِالْقِيَاسِ فَمَهْمَا غَلَبَ عَلَى ظُنُونِكُمْ أَنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِعِلَّةٍ فِي صُورَةٍ وَإِنَّهَا مُتَحَقِّقَةٌ فِي صُورَةٍ أُخْرَى فَقِيسُوهَا عَلَيْهَا لَا يَلْزَمُ مِنْهُ اسْتِحَالَةٌ وَلَكِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِالتَّعَبُّدِ بِهِ بَلْ مَنَعَ مِنْ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فَكَانَ بَاطِلًا وَاتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِوُرُودِ التَّعَبُّدِ بِهِ سَمْعًا عَلَى أَنَّ الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ بِتَعَبُّدٍ بِهِ قَطْعِيٌّ سِوَى أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: هُوَ ظَنِّيٌّ، وَلِهَذَا عَدَلَ عَنْ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ إلَى دَلِيلِ الْعَقْلِ، وَقَالَ الْعَقْلُ يُوجِبُ

<<  <  ج: ص:  >  >>