للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا يُدْرَكُ بِمَعَانِي اللُّغَةِ بِحَالٍ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْجُمْلَةِ، وَهُوَ كَرَجُلٍ اغْتَرَبَ عَنْ وَطَنِهِ بِوَجْهٍ انْقَطَعَ بِهِ أَثَرُهُ وَالْمُشْكِلُ يُقَابِلُ النَّصَّ وَالْمُجْمَلُ يُقَابِلُ الْمُفَسَّرَ، فَإِذَا صَارَ الْمُرَادُ مُشْتَبَهًا عَلَى وَجْهٍ لَا طَرِيقَ لِدَرْكِهِ حَتَّى سَقَطَ طَلَبُهُ وَوَجَبَ اعْتِقَادُ الْحَقِّيَّةِ فِيهِ سُمِّيَ مُتَشَابِهًا بِخِلَافِ الْمُجْمَلِ فَإِنَّ طَرِيقَ دَرْكِهِ مُتَوَهِّمٌ وَطَرِيقُ دَرْكِ الْمُشْكِلِ قَائِمٌ فَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ فَلَا طَرِيقَ لِدَرْكِهِ إلَّا التَّسْلِيمُ فَيَقْتَضِي اعْتِقَادَ الْحَقِّيَّةِ قَبْلَ الْإِصَابَةِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: ٧] وَعِنْدَنَا أَنْ لَا حَظَّ لِلرَّاسِخَيْنِ فِي الْعِلْمِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ إلَّا التَّسْلِيمُ

ــ

[كشف الأسرار]

يَخْرُجُ عَنْ حَيِّزِ الْإِجْمَالِ إلَى حَيِّزِ الْإِشْكَالِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَإِلَى مَا ذَكَرْنَا أَشَارَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي التَّقْوِيمِ بِقَوْلِهِ ثُمَّ بَعْدَ الْبَيَانِ يَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُ بِالْمُفَسَّرِ أَوْ الظَّاهِرِ عَلَى حَسَبِ اقْتِرَانِ الْبَيَانِ بِهِ، فَالشَّيْخُ لَمَّا أَرَادَ تَوْضِيحَ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْكِلِ قَالَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الِاسْتِفْسَارِ أَوَّلًا ثُمَّ قَدْ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْمُشْكِلِ، وَهُوَ الطَّلَبُ وَالتَّأَمُّلُ.

وَلِهَذَا قَدَّمَ نَظِيرَ الْمُجْمَلِ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَى الطَّلَبِ وَالتَّأَمُّلِ بَعْدَ الْبَيَانِ، وَهُوَ الرِّبَا عَلَى الْمُجْمَلِ الَّذِي لَمْ يَحْتَجْ إلَى أَمْرٍ آخَرَ بَعْدَ الْبَيَانِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَبَيَانُ مَا قُلْنَا أَنَّهُ يَصِيرُ مُشْكِلًا بَعْدَ الْبَيَانِ أَنَّ الرِّبَا مَعَ إجْمَالِهِ اسْمُ جِنْسٍ مُحَلَّى بِاللَّامِ فَيَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ أَنْوَاعِهِ وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَيَّنَ الْحُكْمَ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ مِنْ غَيْرِ قَصْرٍ عَلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيمَا وَرَاءَ السُّنَّةِ غَيْرَ مَعْلُومٍ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْبَيَانِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا فِيمَا سِوَاهَا إلَّا أَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ أَنْ يُوقَفَ عَلَى مَا وَرَاءَهَا بِالتَّأَمُّلِ فِي هَذَا الْبَيَانِ نُسَمِّيه مُشْكِلًا فِيهِ لَا مُجْمَلًا، وَبَعْدَ الْإِدْرَاكِ بِالتَّأَمُّلِ وَالْوُقُوفِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ صَارَ مُؤَوَّلًا فِيهِ أَيْضًا فَصَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ لَا بُدَّ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى الِاسْتِفْسَارِ فِي كُلِّ أَنْوَاعِهِ

[تَعْرِيف الْمُتَشَابِه]

ثُمَّ الطَّلَبُ وَالتَّأَمُّلُ فِي الْبَعْضِ، قِيلَ مَعْنَى الطَّلَبِ طَلَبُ الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ وَالتَّأَمُّلُ هُوَ التَّأَمُّلُ فِي صَلَاحِهِ لِلتَّعْدِيَةِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الطَّلَبُ وَالتَّأَمُّلُ فِي اللَّفْظِ لِإِزَالَةِ الْخَفَاءِ كَمَا فِي الْمُشْكِلِ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ وَالتَّأَمُّلَ كَمَا ذَكَرُوا لَا يَخْتَصَّانِ بِالْمُجْمَلِ بَلْ يَكُونَانِ فِي الْمُفَسَّرِ وَالنَّصِّ أَيْضًا قَوْلُهُ (لَا يُدْرَكُ بِمَعَانِي اللُّغَةِ بِحَالٍ) ، فَإِنَّ مُطْلَقَ الزِّيَادَةِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الرِّبَا، وَكَذَا الدُّعَاءُ وَالنَّمَاءُ اللَّذَانِ يَدُلُّ عَلَيْهِمَا لَفْظَا الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لَمْ يَبْقَيَا مُرَادَيْنِ بِيَقِينٍ وَنُقِلَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ إلَى مَعَانٍ أُخَرَ شَرْعِيَّةٍ أَمَّا مَعَ رِعَايَةِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، أَوْ بِدُونِهَا فَلَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِالتَّوْقِيفِ كَمَا فِي الْوَضْعِ الْأَوَّلِ، انْقَطَعَ بِهِ أَيْ بِالِاغْتِرَابِ أَثَرُهُ، فَلَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الِاسْتِفْسَارِ.

وَذَكَرَ فِي نُسْخَةٍ وَأَنَّهُ عَلَى مِثَالِ رَجُلٍ غَابَ عَنْ بَلْدَتِهِ وَدَخَلَ بَلْدَةً أُخْرَى لَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ تِلْكَ الْبَلْدَةِ بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ بَلْ بِالرُّجُوعِ إلَى أَهْلِ بَلْدَتِهِ حَتَّى لَوْ شَهِدَ لَا يَحِلُّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِشَهَادَتِهِ وَلَا لِلْمُزَكِّي أَنْ يُعَدِّلَهُ إلَّا بِالرُّجُوعِ إلَى أَهْلِ بَلْدَتِهِ لِتُعْرَفَ حَالُهُ، فَإِنَّ طَرِيقَ دَرْكِهِ مُتَوَهِّمٌ أَيْ مَرْجُوٌّ مِنْ جِهَةِ الْمُجْمَلِ وَطَرِيقُ دَرْكِ الْمُشْكِلِ قَائِمٌ أَيْ ثَابِتٌ بِدُونِ بَيَانٍ يُلْتَحَقُ بِهِ بَلْ يُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ فِي مَوَاضِعِ اللُّغَةِ.

قَوْلُهُ (إلَّا التَّسْلِيمُ) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِنْ لَا طَرِيقَ، قَبْلَ الْإِصَابَةِ أَيْ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ الْمُتَشَابِهَاتِ تَنْكَشِفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْسِيرِ الْمُتَشَابِهِ، وَهُوَ الَّذِي لَا طَرِيقَ لِدَرْكِهِ أَصْلًا قَوْلُهُ (وَعِنْدَنَا لَا حَظَّ لِلرَّاسِخِينَ إلَّا التَّسْلِيمُ) اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ لَا حَظَّ أَيْ لَيْسَ لَهُ مُوجِبٌ سِوَى اعْتِقَادِ الْحَقِّيَّةِ فِيهِ وَالتَّسْلِيمِ، وَعَلَى بِمَعْنَى مَعَ، وَهَذَا بَيَانُ حُكْمِ الْمُتَشَابِهِ، وَأَنَّ الْوَقْفَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لَا حَظَّ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَعِنْدَنَا أَنْ لَا حَظَّ، وَهُوَ أَصَحُّ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الرَّاسِخَ فِي الْعِلْمِ هَلْ يَعْلَمُ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ فَذَهَبَ عَامَّةُ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إلَى أَنَّهُ لَا حَظَّ لِأَحَدٍ فِي ذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ فِيهِ التَّسْلِيمُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ اعْتِقَادِ حَقِّيَّةَ الْمُرَادِ عِنْدَهُ.

وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ مُتَقَدِّمِي أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ وَعِنْدَنَا، وَعَلَى هَذَا الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ إلَّا اللَّهُ وَاجِبٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>