للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاخْتَلَفُوا فِي خُصُوصِ الْعُمُومِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا لَا يَقَعُ الْخُصُوصُ مُتَرَاخِيًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ مُتَّصِلًا وَمُتَرَاخِيًا، وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَنْ أَوْصَى بِهَذَا الْخَاتَمِ لِفُلَانٍ وَبِفَصِّهِ لِفُلَانٍ غَيْرِهِ مَوْصُولًا إنَّ الثَّانِيَ يَكُونُ خُصُوصًا لِلْأَوَّلِ فَيَكُونُ الْفَصُّ لِلثَّانِي وَإِذَا فَصَلَ لَمْ يَكُنْ خُصُوصًا بَلْ صَارَ مُعَارِضًا فَيَكُونُ الْفَصُّ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا فَرْعٌ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْعُمُومَ عِنْدَنَا مِثْلُ الْخُصُوصِ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ قَطْعًا وَلَوْ اُحْتُمِلَ الْخُصُوصُ مُتَرَاخِيًا لَمَا أَوْجَبَ الْحُكْمُ قَطْعًا مِثْلَ الْعَامِّ الَّذِي لَحِقَهُ الْخُصُوصُ وَعِنْدَهُ هُمَا سَوَاءٌ وَلَا يُوجِبُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْحُكْمَ قَطْعًا بِخِلَافِ الْخُصُوصِ الَّذِي مَرَّ وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافٍ فِي حُكْمِ الْبَيَانِ بَلْ مَا كَانَ بَيَانًا مَحْضًا صَحَّ الْقَوْلُ فِيهِ بِالتَّرَاخِي

ــ

[كشف الأسرار]

اللُّغَةِ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ مَا يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ وُرُودِهِ.

، فَإِنْ قِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْبَيَانِ إظْهَارَهُ بِالتَّنْزِيلِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ بِدَلِيلِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ بَيَانَهُ رَاجِعٌ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَمِيعَ الْقُرْآنِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ فَإِنَّ فِيهِ الْمُحْكَمَ وَالْمُفَسَّرَ وَالنَّصَّ فَيَكُونُ الْبَيَانُ الْمُضَافُ إلَى جَمِيعِهِ إظْهَارُهُ بِالتَّنْزِيلِ قُلْنَا قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: ١٨] أَمْرٌ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِاتِّبَاعِ قُرْآنَهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِهِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِهِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى فَإِذَا قَرَأْنَاهُ هُوَ الْإِنْزَالُ.

ثُمَّ إنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِتَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْبَيَانِ الْإِنْزَالَ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الشَّيْءِ سَابِقًا عَلَى نَفْسِهِ وَبِأَنَّ الْخِطَابَ بِالْمُجْمَلِ قَبْلَ الْبَيَانِ صَحِيحٌ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الِابْتِلَاءَ بِاعْتِقَادِ الْحَقِّيَّةِ فِيمَا هُوَ الْمُرَادُ فِي الْحَالِ مَعَ انْتِظَارِ الْبَيَانِ لِلْعَمَلِ بِهِ وَالِابْتِلَاءُ بِاعْتِقَادِ الْحَقِّيَّةِ فِيهِ أَهَمُّ مِنْ الِابْتِلَاءِ بِالْعَمَلِ بِهِ فَكَانَ حَسَنًا صَحِيحًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الِابْتِلَاءَ بِالتَّشَابُهِ الَّذِي آيَسَنَا عَنْ بَيَانِهِ صَحَّ بِاعْتِبَارِ اعْتِقَادِ الْحَقِّيَّةِ فَالِابْتِلَاءُ بِالْمُجْمَلِ الَّذِي يُنْتَظَرُ بَيَانُهُ كَانَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ وَلَيْسَ فِيهِ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ كَمَا زَعَمُوا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعَمَلِ قَبْلَ الْبَيَانِ لَيْسَ بِثَابِتٍ بَلْ هُوَ مُتَأَخِّرٌ إلَى الْبَيَانِ، وَلَيْسَ هُوَ كَخِطَابِ الْعَرَبِيِّ بِالزِّنْجِيَّةِ أَيْضًا لَا يُفِيدُ أَصْلًا فَإِنَّهُ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ أَوْ خَبَرٌ فَأَمَّا الْعَرَبِيُّ الْمُخَاطَبُ بِالْمُجْمَلِ أَوْ الْمُشْتَرَكِ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا يُفِيدُهُ الْخِطَابُ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ أَوْ خَبَرٌ وَيَعْرِفُ مَجْمُوعَ مَا وُضِعَ لَهُ اسْمُ الْمُشْتَرَكِ وَأَنَّهُ أُرِيدَ وَاحِدٌ مِنْ مَفْهُومَاتِهِ فَيَفْتَرِقَانِ.

، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ التَّعْرِيفِ يَصْلُحُ مَقْصُودًا فِي كَلَامِ النَّاسِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَقُولُ لِغَيْرِهِ لِي إلَيْك حَاجَةٌ مُهِمَّةٌ وَلَا يَكُونُ غَرَضُهُ فِي الْحَالِ إلَّا إعْلَامَ هَذَا الْقَدْرِ وَلِهَذَا وُضِعَتْ فِي اللُّغَةِ أَفْهَامٌ مُبْهَمَةٌ كَمَا وُضِعَتْ أَلْفَاظٌ لَمَعَانٍ مُعَيَّنَةٍ، وَأَيْضًا قَدْ يَحْسُنُ مِنْ الْمَلِكِ أَنْ يَقُولَ لِبَعْضِ عُمَّالِهِ قَدْ وَلَّيْتُكَ مَوْضِعَ كَذَا فَاخْرُجْ إلَيْهِ وَإِمَّا أَكْتُبُ إلَيْك تَذْكِرَةً بِتَفْصِيلِ مَا تَعْمَلُهُ وَيَحْسُنُ مِنْ الْمَوْلَى أَنْ يَقُولَ لِغُلَامِهِ أَنَا آمُرُك أَنْ تَخْرُجَ إلَى السُّوقِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَتَبْتَاعَ مَا أُبَيِّنُهُ لَك غَدَاةَ الْجُمُعَةِ وَيَكُونُ الْقَصْدُ بِذَلِكَ إلَى التَّأَهُّبِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالْعَزْمِ عَلَيْهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ فِي الشَّرْعِ إطْلَاقُ اللَّفْظِ الْمُجْمَلِ أَوْ الْمُشْتَرَكِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ فِي الْحَالِ لِيُفِيدَ وُجُوبَ اعْتِقَادِ الْحَقِّيَّةِ وَصَيْرُورَةَ الْمُخَاطَبِ بِهِ مُطِيعًا بِالْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ عَلَى تَقْدِيرِ الْبَيَانِ وَعَاصِيًا بِالْعَزْمِ عَلَى التَّرْكِ.

[تَخْصِيصِ الْعَامِّ]

قَوْلُهُ (وَاخْتَلَفُوا فِي تَخْصِيصِ الْعَامِّ) لَا خِلَافَ أَنَّ الْعَامَّ إذَا خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ بِدَلِيلٍ مُقَارِنٍ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ مُتَرَاخٍ فَأَمَّا الْعَامُّ الَّذِي لَمْ يُخَصَّ مِنْهُ شَيْءٌ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِدَلِيلٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْهُ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ وَعَامَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَعِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَعَامَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ مُتَرَاخِيًا كَمَا يَجُوزُ مُتَّصِلًا.

وَذَكَرَ فِي الْمَحْصُولِ وَالْمُعْتَمَدِ وَالْقَوَاطِعِ وَغَيْرِهَا الْخِلَافَ فِي كُلِّ ظَاهِرٍ اُسْتُعْمِلَ فِي خِلَافِهِ كَالْمُطْلَقِ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْمُقَيَّدُ وَالنَّكِرَةِ إذَا أُرِيدَ بِهَا الْمُعَيَّنُ.

وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ جَوَازِ التَّخْصِيصِ أَنَّهُ إذَا وَرَدَ مُتَرَاخِيًا لَا يَكُونُ بَيَانًا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْعَامِّ بَعْضُهُ مِنْ الِابْتِدَاءِ بَلْ يَكُونُ نَسْخًا لِلْحُكْمِ فِي الْبَعْضِ مُقْتَصِرًا عَلَى الْحَالِ وَفَائِدَتُهُ أَنَّ الْعَامَّ لَا يَصِيرُ بِهِ ظَنِّيًّا؛ لِأَنَّ صَيْرُورَتَهُ ظَنِّيًّا بِاعْتِبَارِ خُرُوجِ أَفْرَادٍ أُخَرَ عَنْهُ بِالتَّعْلِيلِ وَدَلِيلُ النَّسْخِ

<<  <  ج: ص:  >  >>