للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَقَّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَاحِدٌ أَوْ مُتَعَدِّدٌ فَعِنْدَنَا الْحَقُّ وَاحِدٌ

ــ

[كشف الأسرار]

إنَّمَا يَحْصُلُ مَنْصِبُ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَانِنَا بِمُمَارَسَتِهَا فَهِيَ طَرِيقُ تَحْصِيلِ الدِّرَايَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَلَمْ يَكُنْ الطَّرِيقُ فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ ذَلِكَ وَيُمْكِنُ الْآنَ سُلُوكُ طَرِيقِ الصَّحَابَةِ أَيْضًا. وَاعْلَمْ أَنَّ اجْتِمَاعَ هَذِهِ الْعُلُومِ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يُفْتِي فِي جَمِيعِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَلَيْسَ الِاجْتِهَادُ عِنْدَ الْعَامَّةِ مَنْصِبًا لَا يَتَجَزَّأُ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَفُوزَ الْعَالِمُ بِمَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ دُونَ بَعْضٍ. فَمَنْ عَرَفَ طَرَفَ النَّظَرِ فِي الْقِيَاسِ فَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِي مَسْأَلَةٍ قِيَاسِيَّةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَاهِرًا فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ. وَمَنْ نَظَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُشْتَرَكَةِ أَوْ مَسْأَلَةِ الْعَوْلِ يَكْفِيهِ أَنْ يَكُونَ فَقِيهَ النَّفْسِ عَارِفًا بِأُصُولِ الْفَرَائِضِ وَمَعَانِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَصَّلَ الْأَخْبَارَ الَّتِي وَرَدَتْ فِي بَابِ الرِّبَا وَالْبُيُوعِ فَلَا اسْتِمْدَادَ لِنَظَرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْهَا، وَلَا تَعَلُّقَ لِتِلْكَ الْأَحَادِيثِ بِهَا فَمِنْ أَيْنَ تَضُرُّ الْغَفْلَةُ عَنْهَا وَالْقُصُورُ عَنْ مَعْرِفَتِهَا.

وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمُفْتِي أَنْ يُجِيبَ عَنْ كُلِّ مَسْأَلَةٍ بِجَوَابٍ فَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً فَقَالَ فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ لَا أَدْرِي وَتَوَقَّفَتْ الصَّحَابَةُ وَعَامَّةُ الْمُجْتَهِدِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي الْمَسَائِلِ. فَإِذَنْ لَا يُشْتَرَطُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِيمَا يُفْتِي فَيُفْتِي فِيمَا يَدْرِي وَيَدْرِي أَنَّهُ يَدْرِي وَيُمَيِّزُ بَيْنَ مَا يَدْرِي وَبَيْنَ مَا لَا يَدْرِي فَيَتَوَقَّفُ فِيمَا لَا يَدْرِي وَيُفْتِي فِيمَا يَدْرِي. هَذَا كُلُّهُ مِنْ كَلَامِهِ.

[حُكْمُ الِاجْتِهَاد]

قَوْلُهُ: (فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَقَّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَاحِدٌ) أَرَادَ بِمَوْضِعِ الْخِلَافِ الْمَسَائِلَ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا، وَكَلَّمُوا بِالِاجْتِهَادِ يَعْنِي مَحَلَّ النِّزَاعِ الْحَوَادِثُ الْفِقْهِيَّةُ الْمُجْتَهَدُ فِيهَا لَا الْمَسَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي هِيَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ فَإِنَّ الْحَقَّ فِيهَا وَاحِدٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالْمُخْطِئُ فِيهَا كَافِرٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ إنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس. وَمُضَلَّلٌ مُبْتَدِعٌ إنْ لَمْ يَكُنْ كَأَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ الْعَنْبَرِيُّ إلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي الْمَسَائِلِ الْكَلَامِيَّةِ الَّتِي لَا يَلْزَمُ مِنْهَا كُفْرٌ كَمَسْأَلَةِ خَلْقِ الْقُرْآنِ وَالْإِرَادَةِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ مُصِيبٌ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّ مَا اعْتَقَدَهُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْمَسَائِلِ الْكَلَامِيَّةِ مُطَابِقٌ لِلْحَقِّ إذْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقًا وَغَيْرَ مَخْلُوقٍ وَالْمَعَاصِي دَاخِلَةٌ تَحْتَ إرَادَةِ اللَّهِ وَخَارِجَةٌ عَنْ إرَادَتِهِ، وَالرُّؤْيَةُ مُمْكِنَةٌ وَغَيْرُ مُمْكِنَةٍ، وَفَسَادُ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ نَفْيَ الْإِثْمِ وَالْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ. وَزَادَ الْجَاحِظُ أَنَّ مُخَالِفَ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس إنْ نَظَرَ فَعَجَزَ عَنْ دَرْكِ الْحَقِّ فَهُوَ مَعْذُورٌ غَيْرُ آثِمٍ، وَإِنْ لَمْ يَنْظُرْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ وُجُوبَ النَّظَرِ فَهُوَ مَعْذُورٌ أَيْضًا، وَإِنْ عَانَدَ عَلَى خِلَافِ اعْتِقَادِهِ فَهُوَ آثِمٌ مُعَذَّبٌ، وَاحْتَجَّا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا، وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ، وَأَهْلُ الْأَهْوَاءِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ قَدْ عَجَزُوا عَنْ دَرْكِ الْحَقِّ، وَلَازَمُوا عَقَائِدَهُمْ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إذَا انْسَدَّ عَلَيْهِمْ طَرِيقُ الْمَعْرِفَةِ فَلَا يَلِيقُ بِكَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ تَعْذِيبُهُمْ عَلَى مَا لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ وَلِهَذَا كَانَ الْإِثْمُ مُرْتَفِعًا عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

قَالَ الْعَنْبَرِيُّ الْآيَاتُ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ مُتَشَابِهَةٌ، وَأَدِلَّةُ الشَّرْعِ فِيهَا مُتَعَارِضَةٌ وَكُلُّ فَرِيقٍ ذَهَبَ إلَى أَنَّ آرَاءَهُ أَوْفَقُ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَلَامِ رَسُولِهِ، وَأَلْيَقُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ، وَإِثْبَاتِ دِينِهِ فَكَانُوا مَعْذُورِينَ. وَكَانَ يَقُولُ فِي مُثْبِتِي الْقَدَرِ هَؤُلَاءِ عَظَّمُوا اللَّهَ، وَفِي نُفَاةِ الْقَدَرِ هَؤُلَاءِ نَزَّهُوا اللَّهَ. وَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ بِأَدِلَّةٍ سَمْعِيَّةٍ ضَرُورِيَّةٍ فَإِنَّا كَمَا نَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَمَرَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ نَعْلَمُ ضَرُورَةً أَنَّهُ أَمَرَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالْإِيمَانِ بِهِ وَاتِّبَاعِهِ وَذَمَّهُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>