للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{بَابُ بَيَانِ الضَّرُورَةِ}

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْبَيَانِ يَقَعُ بِمَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ وَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ نَوْعٌ مِنْهُ مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمَنْطُوقِ وَنَوْعٌ مِنْهُ مَا يَثْبُتُ بِدَلَالَةِ حَالِ الْمُتَكَلِّمِ، وَنَوْعٌ مِنْهُ مَا يَثْبُتُ بِضَرُورَةِ الدَّفْعِ، وَنَوْعٌ مِنْهُ مَا يَثْبُتُ بِضَرُورَةِ الْكَلَامِ أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَمِثْلُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: ١١] صَدْرُ الْكَلَامِ أَوْجَبَ الشَّرِكَةَ ثُمَّ تَخْصِيصُ الْأُمِّ بِالثُّلُثِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَبَ يَسْتَحِقُّ الْبَاقِيَ فَصَارَ بَيَانًا لِقَدْرِ نَصِيبِهِ بِصَدْرِ الْكَلَامِ لَا بِمَحْضِ السُّكُوتِ وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي الْمُضَارَبَةِ: إنَّ بَيَانَ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ وَالسُّكُوتَ عَنْ نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ صَحِيحٌ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْبَيَانِ، وَبَيَانَ نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ وَالسُّكُوتَ عَنْ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ صَحِيحٌ اسْتِحْسَانًا عَلَى أَنَّهُ بَيَانٌ بِالشَّرِكَةِ الثَّابِتَةِ بِصَدْرِ الْكَلَامِ

ــ

[كشف الأسرار]

تَرْكِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ إلَى نَوْعٍ مِنْ الْمَجَازِ إذْ الْإِقْرَارُ مُسَالَمَةٌ وَلَيْسَ بِخُصُومَةٍ فَهُوَ بِقَوْلِهِ غَيْرِ جَائِزِ الْإِقْرَارِ تَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ حَقِيقَتُهُ اللُّغَوِيَّةُ وَهِيَ الْخُصُومَةُ لَا مُطْلَقُ الْجَوَابِ الَّذِي هُوَ مَجَازٌ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ نِصْفَ الْعَبْدِ شَائِعًا مِنْ النَّصِيبَيْنِ لَا يَنْصَرِفُ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً عِنْدَ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَطْلَقَ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا اسْتِثْنَاءً حَقِيقَةً بَلْ كَانَ بَيَانَ تَقْرِيرٍ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا وَمَفْصُولًا.

وَالثَّالِثُ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِالْخُصُومَةِ غَيْرَ جَائِزِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْإِنْكَارِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَعْطِيلِ اللَّفْظِ فَإِنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ الْمُنَازَعَةُ وَهِيَ تَحْصُلُ بِالْإِنْكَارِ وَمَجَازُهُ الْجَوَابُ وَهُوَ يَشْمَلُ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْكَارَ فَبِاسْتِثْنَاءِ الْإِنْكَارِ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِمَا جَمِيعًا فَيَبْطُلُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ عِبَارَةً عَنْ الْجَوَابِ وَالْجَوَابُ يَشْمَلُ الْإِنْكَارَ وَالْإِقْرَارَ جَمِيعًا صَحَّ اسْتِثْنَاءُ الْإِنْكَارِ كَمَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْإِقْرَارِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ الْوَصْلُ؛ لِأَنَّهُ تَقْيِيدٌ لِلْإِطْلَاقِ.

وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ لِمُحَمَّدٍ وَلَا يَسْتَقِيمُ تَخْرِيجُهُ عَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَمَلًا بِالْحَقِيقَةِ بِوَجْهٍ.

وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَلَوْ اسْتَثْنَى الْإِنْكَارَ فَقَالَ غَيْرَ جَائِزِ الْإِنْكَارِ عَلَيَّ صَحَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ إنْكَارَ الْوَكِيلِ قَدْ يَضُرُّ الْمُوَكِّلَ بِأَنْ كَانَ الْمُدَّعِي وَدِيعَةً أَوْ بِضَاعَةً فَأَنْكَرَ الْوَكِيلُ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ دَعْوَى الرَّدِّ وَالْهَلَاكِ بَعْدَ صِحَّةِ الْإِنْكَارِ وَيُسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهُ قَبْلَ الْإِنْكَارِ فَإِذَا كَانَ إنْكَارُهُ قَدْ يَضُرُّ الْمُوَكِّلَ صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ الْإِنْكَارَ كَمَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ الْإِقْرَارَ وَالرَّابِعُ أَنْ يَقُولَ وَكَّلْتُك بِالْخُصُومَةِ غَيْرَ جَائِزِ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ قَالُوا لَا يَصِحُّ هَذَا التَّوْكِيلِ أَصْلًا وَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي الْإِمَامِ صَاعِدٍ النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّهُ قَالَ يَصِحُّ وَيَصِيرُ الْوَكِيلُ وَكِيلًا بِالسُّكُوتِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ حَتَّى يُسْمَعَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ.

وَالْخَامِسُ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِالْخُصُومَةِ جَائِزَ الْإِقْرَارِ عَلَيْهِ يَصِيرُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ وَالْإِقْرَارِ جَمِيعًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ثُمَّ التَّوْكِيلُ بِالْإِقْرَارِ صَحِيحٌ وَلَا يَصِيرُ الْمُوَكِّلُ مُقِرًّا عِنْدَنَا

إلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ بِالصُّلْحِ وَحُكِيَ عَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الزَّاهِدِ أَحْمَدَ الطَّوَاوِيسِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَعْنَى التَّوْكِيلِ بِالْإِقْرَارِ هُوَ أَنْ يَقُولَ لِلْوَكِيلِ وَكَّلْتُك أَنْ تُخَاصِمَ وَتَذُبَّ عَلَيَّ فَإِذَا رَأَيْت مَذَمَّةً تَلْحَقُنِي بِالْإِنْكَارِ وَاسْتَصْوَبْتَ الْإِقْرَارَ فَأَقِرَّ عَلَيَّ فَإِنِّي قَدْ أَجَزْتُ لَكَ. كَذَا فِي الْمُغْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

[بَابُ بَيَانِ الضَّرُورَةِ]

[أَوْجُهٍ بَيَانِ الضَّرُورَةِ]

بَابُ بَيَانِ الضَّرُورَةِ أَيْ الْبَيَانُ الَّذِي يَقَعُ بِسَبَبِ الضَّرُورَةِ فَكَأَنَّهُ أَضَافَ الْحُكْمَ إلَى سَبَبِهِ بِمَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ وَهُوَ السُّكُوتُ نَوْعٌ مِنْهُ مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمَنْطُوقِ أَيْ النُّطْقُ يَدُلُّ عَلَى حُكْمِ الْمَسْكُوتِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْطُوقِ وَقَوْلُهُ: بِدَلَالَةِ حَالِ الْمُتَكَلِّمِ مَجَازٌ أَيْ بِدَلَالَةِ حَالِ السَّاكِتِ الْمُشَاهَدِ وَكَأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ سُكُوتَهُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ سَمَّى نَفْسَهُ مُتَكَلِّمًا ضَرُورَةَ الدَّفْعِ أَيْ دَفْعِ الْغُرُورِ كَانَ بَيَانًا بِصَدْرِ الْكَلَامِ لَا بِمَحْضِ السُّكُوتِ يَعْنِي لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْبَيَانُ بِمُجَرَّدِ السُّكُوتِ عَنْ نَصِيبِ الْأَبِ بَلْ بِدَلَالَةِ صَدْرِ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} [النساء: ١١] يَصِيرُ نَصِيبُ الْأَبِ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عِنْدَ ذِكْرِ نَصِيبِ الْأُمِّ كَأَنَّهُ قِيلَ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ وَلِأَبِيهِ مَا بَقِيَ

قَوْلُهُ: (وَنَظِيرُ ذَلِكَ) أَيْ مِثَالُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَسَائِلِ مَا إذَا بَيَّنَ رَبُّ الْمَالِ نَصِيبَ الْمُضَارِبِ

<<  <  ج: ص:  >  >>