للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{بَابُ تَقْسِيمِ النَّاسِخِ} قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْحُجَجُ أَرْبَعَةٌ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ أَمَّا الْقِيَاسُ فَلَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِمَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

ــ

[كشف الأسرار]

بِطَرِيقِ الِابْتِلَاءِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ لِجَرِّ النَّفْعِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْفِعْلِ لَا بِعَقْدِ الْقَلْبِ فَإِنْ قِيلَ: الِابْتِلَاءُ كَمَا يَحْصُلُ بِوُجُوبِ الْعَقْدِ يَحْصُلُ بِوُجُوبِ الْفِعْلِ فَكَانَ كِلَاهُمَا مَقْصُودًا قُلْنَا نَعَمْ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ كِلَاهُمَا مَقْصُودٌ وَلَكِنْ تَبَيَّنَ بِالنَّسْخِ الْمُرَادُ كَانَ هُوَ الِابْتِلَاءَ بِالِاعْتِقَادِ كَمَا إذَا نُسِخَ بَعْدَ الْفِعْلِ مَرَّةً وَقَدْ كَانَ الْأَمْرُ مُطْلَقًا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الِابْتِلَاءَ كَانَ بِالْفِعْلِ مَرَّةً أَوْ مُدَّةُ الْفِعْلِ كَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَى هَذَا الزَّمَانِ، وَإِنْ كَانَ مُطْلَقُ الْأَمْرِ يَتَنَاوَلُ الْأَزْمِنَةَ كُلَّهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرِدْ النَّسْخُ وَجَبَ الْفِعْلُ فِي الْأَزْمِنَةِ كُلِّهَا بِقَضِيَّةِ الْأَمْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[بَابُ تَقْسِيمِ النَّاسِخِ]

اعْلَمْ أَنَّ النَّاسِخَ يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى يُقَالُ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى التَّوَجُّهَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: ١٠٦] وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج: ٥٢] وَعَلَى الْحُكْمِ الثَّابِتِ كَمَا يُقَالُ وُجُوبُ صَوْمِ رَمَضَانَ نَسَخَ وُجُوبَ صَوْمِ عَاشُورَاءَ وَعَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ نَسْخَ الْحُكْمِ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ يَنْسَخُ الْقُرْآنَ بِالسُّنَّةِ أَيْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ وَعَلَى الطَّرِيقِ الْمُعَرِّفِ لِارْتِفَاعِ الْحُكْمِ مِنْ الْآيَةِ وَخَبَرِ الرَّسُولِ وَنَحْوِهِمَا عِنْدَ مَنْ جَوَّزَ النَّسْخَ بِغَيْرِهِمَا وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا وَلَا خِلَافَ أَنَّ إطْلَاقَهُ عَلَى الْمُتَوَسِّطِينَ مَجَازٌ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الطَّرَفَيْنِ فَعِنْدَنَا إطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةٌ وَعَلَى الطَّرِيقِ الْمُعَرِّفِ مَجَازٌ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى الْعَكْسِ وَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ الْحُجَجُ أَرْبَعٌ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَرْبَعَةٌ عَلَى تَأْوِيلِ الدَّلَائِلِ قَوْلُهُ (أَمَّا الْقِيَاسُ فَلَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِمَا نُبَيِّنُ) كَأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ لِمَا نُبَيِّنُ مَا ذُكِرَ فِي بَابِ شُرُوطِ الْقِيَاسِ أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَتَعَدَّى إلَى فَرْعٍ لَا نَصَّ فِيهِ إذْ التَّعَدِّيَةُ بِمُخَالَفَةِ النَّصِّ مُنَاقِضَةٌ حُكْمَ النَّصِّ وَهُوَ بَاطِلٌ وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَظْنُونَ لَا يَكُونُ نَاسِخًا لِشَيْءٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سَوَاءٌ كَانَ جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا وَنُقِلَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ شُرَيْحٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ النَّسْخَ يَجُوزُ بِهِ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ بَيَانٌ كَالتَّخْصِيصِ فَمَا جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ جَازَ النَّسْخُ بِهِ أَيْضًا.

وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ مِنْ أَصْحَابِهِ لَا يُجَوِّزُ ذَلِكَ بِقِيَاسِ الشِّبْهِ وَيَجُوزُ بِقِيَاسٍ مُسْتَخْرَجٍ مِنْ الْأُصُولِ وَكَانَ يَقُولُ كُلُّ قِيَاسٍ هُوَ مُسْتَخْرَجٌ مِنْ الْقُرْآنِ يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِهِ وَكُلُّ قِيَاسٍ هُوَ مُسْتَخْرَجٌ مِنْ السُّنَّةِ يَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ فَثُبُوتُ الْحُكْمِ بِمِثْلِ هَذَا الْقِيَاسِ يَكُونُ مُحَالًا بِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إذْ الْقِيَاسُ بِكَثِيرٍ مُحَالُ النَّصِّ وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ النَّسْخَ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي الْقَاسِمِ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ دُونَ الْخَفِيِّ قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَفْظُ الْجَلِيِّ مُبْهَمٌ إنْ أَرَادَ بِهِ الْمَقْطُوعَ بِهِ فَهُوَ صَحِيحٌ وَأَمَّا الْمَظْنُونُ فَلَا.

تَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى تَرْكِ الرَّأْيِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ السُّنَّةُ مِنْ الْآحَادِ حَتَّى قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَدِيثِ الْجَنِينِ كِدْنَا أَنْ نَقْضِيَ فِيهِ بِرَأْيِنَا وَفِيهِ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ بَاطِنُ الْخُفِّ بِالْمَسْحِ أَوْلَى مِنْ ظَاهِرِهِ وَلَكِنِّي «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ الْخُفِّ دُونَ بَاطِنِهِ» وَبِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ عَلَى الْقِيَاسِ الْمَظْنُونِ الَّذِي يُنْسَخُ

<<  <  ج: ص:  >  >>