للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَصِيرُ قُرْبَةً إلَّا بِعَزِيمَةِ الْقَلْبِ وَعَزِيمَةُ الْقَلْبِ قَدْ تَصِيرُ قُرْبَةً بِلَا فِعْلٍ وَالْفِعْلُ فِي احْتِمَالِ السُّقُوطِ فَوْقَ الْعَزِيمَةِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَلَحَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا دُونَ الْفِعْلِ أَلَا يَرَى أَنَّ عَيْنَ الْحَسَنِ لَا يَثْبُتُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ وَقَوْلُ الْقَائِلِ افْعَلُوا عَلَى سَبِيلِ الطَّاعَةِ أَمْرٌ بِعَقْدِ الْقَلْبِ لَا مَحَالَةَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مَقْصُودًا لَازِمًا وَالْآخَرُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ــ

[كشف الأسرار]

عَنْك صَحَّ ذَلِكَ وَاسْتَقَامَ كَمَا لَوْ قَالَ: افْعَلْ فِي وَقْتِ كَذَا إنْ تَمَكَّنْت مِنْهُ وَتَكُونُ الْفَائِدَةُ فِي الْحَالِ هِيَ الْقَبُولَ بِالْقَلْبِ وَاعْتِقَادَ الْحَقِّيَّةِ فَكَذَلِكَ يَصِحُّ بَعْدَ الْأَمْرِ بِطَرِيقِ النَّسْخِ.

قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَصِيرُ قُرْبَةً) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى صَلَاحِيَّةِ الِاعْتِقَادِ مَقْصُودًا بِدُونِ الْفِعْلِ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ قَوْلِ الْخَصْمِ أَنَّ الْفِعْلَ هُوَ الْمَقْصُودُ لَا غَيْرُ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَصِيرُ قُرْبَةً أَيْ سَبَبَ نَيْلِ الثَّوَابِ إلَّا بِعَزِيمَةِ الْقَلْبِ بِالِاتِّفَاقِ وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» .

وَعَزِيمَةُ الْقَلْبِ قَدْ تَصِيرُ قُرْبَةً بِدُونِ الْفِعْلِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ» الْحَدِيثَ وَالْفِعْلُ فِي احْتِمَالِ السُّقُوطِ فَوْقَ الْعَزِيمَةِ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَكَذَا الطَّاعَاتُ الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ مَعَ كَوْنِهَا مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ عِنْدَ قَوْمٍ تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِعَوَارِضَ وَالتَّصْدِيقُ الَّذِي هُوَ عَزِيمَةُ الْقَلْبِ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِحَالٍ وَلِهَذَا كَانَ تَرْكُ الْعَزِيمَةِ أَيْ تَرْكُ الِاعْتِقَادِ كُفْرًا وَتَرْكُ الْعَمَلِ فِسْقًا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ كَانَ الشَّأْنُ كَمَا ذَكَرْنَا صَلَحَ أَنْ يَكُونَ عَقْدُ الْقَلْبِ مَقْصُودًا بِالِابْتِلَاءِ دُونَ الْفِعْلِ لِكَوْنِهِ أَهَمَّ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ بَدَاءً أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا قَدْ يَأْمُرُ عَبْدَهُ بِشَيْءٍ وَمَقْصُودُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُظْهِرَ عِنْدَ النَّاسِ حُسْنَ طَاعَتِهِ وَانْقِيَادِهِ لَهُ ثُمَّ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ حُصُولِ هَذَا الْمَقْصُودِ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ وَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ دَلِيلَ الْبَدَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْآمِرُ مِمَّنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْبَدَاءُ فَلَأَنْ لَا يُجْعَلُ النَّسْخُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ بَعْدَ عَزْمِ الْقَلْبِ وَاعْتِقَادِ الْحَقِّيَّةِ مُوهِمًا لِلْبَدَاءِ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْبَدَاءُ أَوْلَى قَوْلُهُ (أَلَا تَرَى أَنَّ غَيْرَ الْحَسَنِ لَا يَثْبُتُ) تَوْضِيحٌ لِصَلَاحِيَّةِ الِاعْتِقَادِ مَقْصُودًا وَجَوَابٌ عَنْ لُزُومِ اجْتِمَاعِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ يَعْنِي لَا يَثْبُتُ حَقِيقَةُ الْحُسْنِ لِلْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ قَبْلَ وُجُودِهِ؛ لِأَنَّ الْحُسْنَ صِفَةٌ لَهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ وُجُودِهِ وَلَا بُدَّ لِلنَّسْخِ مِنْ تَحَقُّقِ الْمَأْمُورِ بِهِ لِيَكُونَ النَّاسِخُ بَيَانًا لِانْتِهَاءِ حُسْنِهِ وَمُثْبِتًا لِقُبْحِ مَا يُتَصَوَّرُ مِنْ أَمْثَالِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ثُمَّ لَمَّا جَازَ النَّسْخُ بِالْإِجْمَاعِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ قَبْلَ حُصُولِ حَقِيقَتِهِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ صِحَّتُهُ مَبْنِيَّةً عَلَى كَوْنِ الِاعْتِقَادِ مَقْصُودًا بِالْأَمْرِ كَالْفِعْلِ لِيَصْلُحَ النَّاسِخُ بَيَانًا لِانْتِهَاءِ حُسْنِهِ إذْ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِانْتِهَاءِ حُسْنِ الْفِعْلِ لِاسْتِحَالَةِ انْتِهَاءِ الشَّيْءِ قَبْلَ وُجُودِهِ وَلَمَّا جَازَ ذَلِكَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ بَدَاءٌ وَاجْتِمَاعُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ جَازَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ أَيْضًا لِوُجُودِ هَذَا الْمَعْنَى.

وَقَوْلُهُ وَقَوْلُ الْقَائِلِ كَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ الْفِعْلُ هُوَ الْمَقْصُودُ أَيْ إذَا قَالَ افْعَلُوا عَلَى سَبِيلِ الطَّاعَةِ يَكُونُ أَمْرًا بِعَقْدِ الْقَلْبِ كَمَا هُوَ أَمْرٌ بِالْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الطَّاعَةَ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ عَقْدِ الْقَلْبِ عَلَى حَقِّيَّةَ الْمَأْمُورِ بِهِ فَكَانَ الْأَمْرُ مُوجِبًا لِلْعَقْدِ وَالْفِعْلِ جَمِيعًا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ الْعَقْدُ مَقْصُودًا لَازِمًا لِكَوْنِهِ أَهَمَّ وَالْآخَرُ وَهُوَ الْفِعْلُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا وَبَيْنَ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ وَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفِعْلَ بِعَيْنِهِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ الْمَقْصُودُ هُوَ الِابْتِلَاءُ وَلَا يَحْصُلُ الِابْتِلَاءُ إلَّا بِكَوْنِ وُجُوبِ الِاعْتِقَادِ مِنْ مَوَاجِبِ الْأَمْرِ وَلِهَذَا لَوْ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَلَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَهُ لَا يَصِحُّ فِعْلُهُ فَكَانَ هُوَ مَقْصُودًا لَازِمًا بِخِلَافِ أَوَامِرِ الْعِبَادِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا لَيْسَ إلَّا طَلَبُ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ

<<  <  ج: ص:  >  >>