للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سَبَبُ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ غَنِيٍّ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ بِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ» بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ» وَبَيَانُهُ أَنَّ كَلِمَةَ عَنْ لِانْتِزَاعِ الشَّيْءِ فَدَلَّ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبًا يَنْتَزِعُ الْحُكْمَ عَنْهُ أَوْ مَحَلًّا يَجِبُ الْحَقُّ عَلَيْهِ فَيُؤَدِّيَ عَنْهُ وَبَطَلَ الثَّانِي لِاسْتِحَالَةِ الْوُجُوبِ عَلَى الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ وَالْفَقِيرِ فَعُلِمَ بِهِ أَنَّهُ سَبَبٌ وَلِذَلِكَ يَتَضَاعَفُ الْوُجُوبُ بِتَضَاعُفِ الرُّءُوسِ، وَأَمَّا وَقْتُ الْفِطْرِ فَشَرْطُهُ حَتَّى لَا يَعْمَلَ السَّبَبُ إلَّا لِهَذَا الشَّرْطِ

ــ

[كشف الأسرار]

بَلْ الشَّرْطُ احْتِمَالُ الْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ، وَهُوَ ثَابِتٌ وَلِهَذَا لَوْ أَسْلَمَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ قَبْلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الصَّوْمُ، وَإِنْ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْ الشَّهْرِ لِانْقِطَاعِ احْتِمَالِ الْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ. وَذَهَبَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ وَالشَّيْخُ الْمُصَنِّفُ وَصَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ إلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الصَّوْمِ أَيَّامُ شَهْرِ رَمَضَانَ دُونَ اللَّيَالِي أَيْ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ سَبَبٌ لِصَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَيَجِبُ صَوْمُ جَمِيعِ الْيَوْمِ مُقَارِنًا إيَّاهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الشَّهْرِ أَشْيَاءُ مُتَغَايِرَةٌ إذْ صَوْمُ كُلِّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ عَلَى حِدَةٍ غَيْرُ مُرْتَبِطٍ بِغَيْرِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِشَرَائِطِ وُجُودِهِ، وَانْفِرَادُهُ بِالِارْتِفَاعِ عِنْدَ طُرُوءِ النَّاقِضِ كَالصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا بَلْ التَّفَرُّقُ فِي الصِّيَامِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الصَّلَوَاتِ فَإِنَّ التَّفَرُّقَ فِي الصَّلَوَاتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَدَاءَ الظُّهْرِ لَا يَجُوزُ فِي وَقْتِ الْفَجْرِ وَيَفُوتُ بِمَجِيءِ وَقْتِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَدَاءِ الظُّهْرِ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَوْجُودٌ وَزِيَادَةٌ، وَهِيَ أَنَّ بَيْنَ كُلِّ يَوْمَيْنِ وَقْتًا لَا يَصْلُحُ لِلصَّوْمِ لَا أَدَاءً، وَلَا قَضَاءً لِمَا مَضَى، وَلَا نَفْلًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ كُلُّ عِبَادَةٍ مُتَعَلِّقَةً بِسَبَبٍ عَلَى حِدَةٍ وَذَلِكَ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا جَعَلَ وَقْتًا سَبَبًا لِعِبَادَةٍ فَذَلِكَ بَيَانُ شَرَفِ ذَلِكَ الْوَقْتِ لِحَقِّ تِلْكَ الْعِبَادَةِ وَالْعِبَادَةُ فِي الْأَدَاءِ دُونَ الْإِيجَابِ فَإِنَّهُ صُنْعُ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَسْتَقِمْ الْوَقْتُ الْمُنَافِي لِلْأَدَاءِ شَرْعًا سَبَبًا لِوُجُوبِهِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْأَسْبَابَ هِيَ الْأَيَّامُ دُونَ اللَّيَالِي، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ وَالْوَقْتُ مَتَى جُعِلَ سَبَبًا كَانَ ظَرْفًا لِلْأَدَاءِ أَيْ مَحَلًّا لَهُ كَوَقْتِ الصَّلَاةِ لَمَّا جُعِلَ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا كَانَ مَحَلًّا لِأَدَائِهَا. وَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ ظَرْفًا هَاهُنَا أَنَّ الْوَاجِبَ يُؤَدَّى فِيهِ لَا أَنَّ الْوَقْتَ يَفْضُلُ عَنْ الْأَدَاءِ.

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ كَلَامِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ فَهُوَ أَنَّ شَرَفَ اللَّيَالِي بِاعْتِبَارِ شَرْعِيَّةِ الصَّوْمِ فِي أَيَّامِهَا فَكَانَ شَرَفُهَا تَابِعًا لِشَرَفِ الْأَيَّامِ أَوْ شَرَفُهَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا أَوْقَاتًا لِقِيَامِ رَمَضَانَ، وَكَلَامُنَا فِي شَرَفٍ يَحْصُلُ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِيَّةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِأَدَاءِ مُسَبَّبِهِ. وَأَمَّا عَدَمُ سُقُوطِ الصَّوْمِ عَنْ الْمَجْنُونِ الَّذِي لَمْ يُفِقْ إلَّا فِي جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلَةِ فَلِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْوُجُوبِ مَعَ الْجُنُونِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ عَنْهُ عِنْدَ تَضَاعُفِ الْوَاجِبَاتِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَاعْتُبِرَ الْحَرَجُ فِي حَقِّ الصَّوْمِ بِاسْتِغْرَاقِ الْجُنُونِ جَمِيعَ الشَّهْرِ، وَلَمْ يُوجَدْ. وَأَمَّا جَوَازُ النِّيَّةِ فِي اللَّيْلِ فَبِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّيْلَ جُعِلَ تَابِعًا لِلْيَوْمِ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ ضَرُورَةَ تَعَذُّرِ اقْتِرَانِ النِّيَّةِ بِأَوَّلِ أَجْزَاءِ الصَّوْمِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي مَسْأَلَةِ التَّبْيِيتِ فَأُقِيمَتْ النِّيَّةُ فِي اللَّيْلِ مَقَامَ النِّيَّةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِأَوَّلِ الصَّوْمِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا هُوَ الْأَصْلُ احْتِرَازٌ عَنْ الشَّرْطِ فَإِنَّ الْحُكْمَ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُودًا وَلِهَذَا أَيْ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ سَبَبٌ لِوُجُوبِ صَوْمِهِ، وَقَدْ مَرَّتْ أَحْكَامُ هَذَا الْقِسْمِ أَيْضًا كَأَحْكَامِ الصَّلَاةِ فِي بَابِ تَقْسِيمِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي حَقِّ الْوَقْتِ.

[سَبَبُ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ]

قَوْلُهُ (وَسَبَبُ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ) رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ أَيْ يَقُومُ الْمُكَلَّفُ بِكِفَايَتِهِ وَيَتَحَمَّلُ مُؤْنَتَهُ بِوِلَايَتِهِ أَيْ بِسَبَبِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ مِثْلُ التَّزْوِيجِ وَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. إذْ الْبَاءُ بِمَعْنَى مَعَ، وَمَعْنَى الْوِلَايَةِ تَنْفِيذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ الْغَيْرُ أَوْ أَبَى. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الرَّأْسَ بِصِفَةِ الْمُؤْنَةِ وَالْوِلَايَةِ جُعِلَ سَبَبًا لِصَدَقَةِ الْفِطْرِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - السَّبَبُ رَأْسٌ يَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ وَيَعْقُبُهُ كَذَا ذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ. وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْوَقْتُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِدَلِيلِ إضَافَتِهَا إلَيْهِ يُقَالُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَبِدَلِيلِ تَكَرُّرِهَا بِتَكَرُّرِ الْوَقْتِ فِي رَأْسٍ وَاحِدٍ. وَلَكِنَّا نَقُولُ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ رَأْسُهُ وَالصَّدَقَةُ جُعِلَتْ مُؤْنَةً شَرْعِيَّةً، وَالْمُؤْنَةُ الْأَصْلِيَّةُ تَتَعَلَّقُ بِكَوْنِهِ مَالِكَ رَأْسِهِ وَوَلِيَّهُ فَكَذَا الصَّدَقَةُ، وَكَذَا رَأْسُ غَيْرِهِ يَلْتَحِقُ بِرَأْسِهِ بِمُؤْنَةِ الرَّأْسِ بِسَبَبِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ لِيَصِيرَ كَرَأْسِهِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ. فَإِذَا عُدِمَتْ الْوِلَايَةُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ وَالِابْنِ الزَّمِنِ الْبَالِغِ

<<  <  ج: ص:  >  >>