للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَهُوَ الْجَهْلُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ الصَّحِيحِ أَوْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ لَكِنْ فِي مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّ مَنْ صَلَّى الظُّهْرَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ بِوُضُوءٍ وَعِنْدَهُ أَنَّ الظُّهْرَ قَدْ أَجْزَأَهُ فَالْعَصْرُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا جَهْلٌ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ وَإِنْ قَضَى الظُّهْرَ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَعِنْدَهُ أَنَّ الْعَصْرَ أَجْزَأَ عَنْهُ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ جَهْلٌ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ فِي تَرْتِيبِ الْفَوَائِتِ

ــ

[كشف الأسرار]

فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَضَى بِالْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَلَى الْيَهُودِ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ» . وَرَوَى زِيَادُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إنِّي وَجَدْت أَخِي قَتِيلًا فِي بَنِي فُلَانٍ فَقَالَ اخْتَرْ مِنْ شُيُوخِهِمْ خَمْسِينَ رَجُلًا فَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا فَقَالَ وَلَيْسَ لِي مِنْ أَخِي إلَّا هَذَا قَالَ نَعَمْ وَلَك مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» وَفِي الْحَدِيثِ. أَنَّ قَتِيلًا وُجِدَ بَيْنَ وِدَاعَةَ وَأَرْحَبَ وَكَانَ إلَى وِدَاعَةَ أَقْرَبُ فَقَضَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَيْهِمْ بِالْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ فَقَالُوا لَا أَيْمَانُنَا تَدْفَعُ عَنْ أَمْوَالِنَا وَلَا أَمْوَالُنَا تَدْفَعُ عَنْ أَيْمَانِنَا فَقَالَ حَقَنْتُمْ دِمَاءَكُمْ بِأَيْمَانِكُمْ وَأُغَرِّمُكُمْ الدِّيَةَ بِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ فَكَانَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ بِهَا مُخَالِفًا لِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فَكَانَ مَرْدُودًا وَمِثْلُ اسْتِبَاحَةِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا عَمَلًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «تَسْمِيَةُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ» وَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ بِالنِّسْيَانِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: ١٢١] .

وَمِثْلُ إيجَابِ الْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي عَمَلًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَضَى بِذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: ٢٨٢] إلَى أَنْ قَالَ {وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا} [البقرة: ٢٨٢] وَلِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ الِانْقِطَاعِ فَيَكُونُ مَرْدُودًا. فَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَنَظَائِرِهَا إنْ اعْتَمَدَ الْخَصْمُ عَلَى الْقِيَاسِ فَهُوَ مِنْهُ عَمَلٌ بِالِاجْتِهَادِ عَلَى خِلَافِ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ، وَإِنْ اعْتَمَدَ عَلَى الْخَبَرِ فَهُوَ عَمَلٌ مِنْهُ بِالْغَرِيبِ مِنْ السُّنَّةِ عَلَى خِلَافِهِمَا أَوْ خِلَافِ أَحَدِهِمَا فَيَكُونُ فَاسِدًا. لِأَنَّا أُمِرْنَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ لَيْسَ بِعُذْرٍ أَصْلًا أَيْ أُمِرْنَا بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ وَمِنْ الْمَعْرُوفِ الْعَمَلُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَمِنْ الْمُنْكَرِ مُخَالَفَتُهُمَا أَوْ مُخَالَفَةُ أَحَدِهِمَا وَمِنْ النَّصِيحَةِ الْإِرْشَادُ إلَى الصَّوَابِ وَإِظْهَارُ الْحَقِّ بِالْمُنَاظَرَةِ وَإِقَامَةُ الدَّلِيلِ فَيَجِبُ عَلَيْنَا ذَلِكَ وَيَجِبُ عَلَى الْخَصْمِ الطَّلَبُ وَالْقَبُولُ فَلَا يَكُونُ جَهْلُهُ عُذْرًا بِوَجْهٍ. وَعَلَى هَذَا وَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالِاجْتِهَادِ عَلَى خِلَافِ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ بَاطِلٌ يُبْتَنَى مَا يَنْفُذُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي وَمَا لَا يَنْفُذُ فَإِنْ وُجِدَ فِيهِ الْعَمَلُ بِخِلَافِ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ كَمَا فِي هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ لَا يَنْفُذُ؛ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ وَإِنْ عُدِمَ فِيهِ ذَلِكَ كَمَا فِي عَامَّةِ الْمُجْتَهَدَاتِ يَنْفُذُ

[الْجَهْلُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ الصَّحِيحِ أَوْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ]

قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ) وَهُوَ الْجَهْلُ الَّذِي يَصْلُحُ شُبْهَةً فَهُوَ الْجَهْلُ فِي مَوْضِعٍ تَحَقَّقَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالصَّحِيحِ. أَوْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ أَيْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ اجْتِهَادٌ وَلَكِنَّهُ مَوْضِعُ الِاشْتِبَاهِ. صَلَّى الظُّهْرَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ يَعْنِي غَيْرَ عَالِمٍ بِعَدَمِ الْوُضُوءِ. ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ عَلَى وُضُوءٍ ذَاكِرًا لِذَلِكَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الظُّهْرَ أَجْزَأَهُ لِكَوْنِهِ غَيْرَ عَالِمٍ بِعَدَمِ الْوُضُوءِ فِيهِ فَالْعَصْرُ فَاسِدَةٌ كَالظُّهْرِ عِنْدَنَا فَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ ظَنَّهُ بِجَوَازِ الظُّهْرِ جَهْلٌ وَاقِعٌ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ ظُهْرَهُ فَاسِدٌ بِلَا خِلَافٍ فَكَانَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي لَا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ.

وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إنَّمَا يَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ فَأَمَّا مَنْ لَا يَعْلَمُ بِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>