للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيمَنْ قُتِلَ وَلَهُ وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا عَنْ الْقِصَاصِ ثُمَّ قَتَلَهُ الثَّانِي وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْقِصَاصَ بَاقٍ لَهُ عَلَى الْكَمَالِ وَأَنَّهُ وَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قِصَاصٌ كَامِلٌ فَإِنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ جَهْلَهُ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ وَفِي حُكْمٍ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ

ــ

[كشف الأسرار]

ضَعِيفٌ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِهِ. وَكَانَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إذَا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِيهِ فَهُوَ فِي مَعْنَى النَّاسِي لِلْفَائِتَةِ فَيُجْزِيه فَرْضُ الْوَقْتِ. وَلِأَنَّ الْعَصْرَ لَوْ لَمْ يَجُزْ إنَّمَا لَا يَجُوزُ بِاعْتِبَارِ التَّرْتِيبِ وَهُوَ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَكَانَ ظَنُّهُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ فَيُعْتَبَرُ.

لَكِنَّا نَقُولُ إنْ كَانَ الرَّجُلُ مُجْتَهِدًا قَدْ ظَهَرَ عِنْدَهُ أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ فَهُوَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ نَاسِيًا فَهُوَ مَعْذُورٌ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِأَدَاءِ الْفَائِتَةِ قَبْلَ أَنْ يَتَذَكَّرَ فَأَمَّا إذَا كَانَ ذَاكِرًا وَهُوَ غَيْرُ مُجْتَهِدٍ فَمُجَرَّدُ ظَنِّهِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَلَا يُعْتَبَرُ. فَإِنْ قَضَى الظُّهْرَ وَحْدَهَا وَهَذَا الْفَرْعُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ إيرَادِ هَذَا الْمِثَالِ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْعَصْرَ أَجْزَأَتْهُ جَازَ الْمَغْرِبُ وَيُعِيدُ الْعَصْرَ فَقَطْ؛ لِأَنَّ ظَنَّهُ بِجَوَازِ الْعَصْرِ جَهْلٌ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ فِي تَرْتِيبِ الْفَوَائِتِ فَإِنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِ التَّرْتِيبِ خِلَافٌ مُعْتَبَرٌ فَكَانَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا. وَحَاصِلُ الْفَرْقِ أَنَّ فَسَادَ الظُّهْرِ بِتَرْكِ الْوُضُوءِ فَسَادٌ قَوِيٌّ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَكَانَتْ مَتْرُوكَةً بِيَقِينٍ فَيَظْهَرُ أَثَرُ الْفَسَادِ فِيمَا يُؤَدِّي بَعْدَهَا وَلَمْ يُعْذَرْ بِالْجَهْلِ فَأَمَّا فَسَادُ الْعَصْرِ بِسَبَبِ تَرْكِ التَّرْتِيبِ فَضَعِيفٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَا تَكُونُ مَتْرُوكَةً بِيَقِينٍ فَلَا يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إلَى صَلَاةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّرْتِيبِ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ فِي مَتْرُوكَةٍ بِيَقِينٍ عِلْمًا وَعَمَلًا وَهُوَ كَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فِي الْبَيْعِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِمَا بِخِلَافِ مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ قِنٍّ وَمُدَبَّرٍ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.

قَوْلُهُ (وَقَالَ أَصْحَابُنَا) إلَى آخِرِهِ إذَا كَانَ الدَّمُ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا ثُمَّ قَتَلَهُ الْآخَرُ عَمْدًا فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِعَفْوِ الشَّرِيكِ أَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ بِعَفْوِ أَحَدِهِمَا يَسْقُطُ الْقَوَدُ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً فِي مَالِهِ عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ سَقَطَ بِعَفْوِ أَحَدِهِمَا عَلِمَ الْآخَرُ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ أَوْ لَمْ يَشْتَبِهْ فَبَقِيَ مُجَرَّدُ الظَّنِّ فِي حَقِّ الْآخَرِ وَالظَّنُّ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ بَعْدَمَا تَقَرَّرَ سَبَبٌ كَمَا لَوْ قَتَلَ رَجُلًا عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُ قَتَلَ وَلِيَّهُ ثُمَّ جَاءَ وَلِيُّهُ حَيًّا كَانَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ.

وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ وُجُوبَ الْقِصَاصِ وَمَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ وَاجِبًا فِي حَقِّهِ ظَاهِرًا وَالظَّاهِرُ يَصِيرُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ. وَكَذَا إذَا عَلِمَ بِالْعَفْوِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْقَوَدَ سَقَطَ بِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ تَصَرُّفَ الْغَيْرِ فِي حَقِّهِ غَيْرُ نَافِذٍ وَسُقُوطُ الْقَوَدِ عِنْدَ عَفْوِ أَحَدِهِمَا بِاعْتِبَارِ مَعْنًى خَفِيٍّ وَهُوَ أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزِّيَ فَإِنَّمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ حُكْمٌ قَدْ يَشْتَبِهُ فَيَصِيرُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الظَّاهِرِ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ. بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ أَنَّ الْقَوَدَ سَقَطَ بِالْعَفْوِ ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا حَيْثُ يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ قَدْ ظَهَرَ الْمُسْقِطُ عِنْدَهُ وَأَقْدَمَ عَلَى الْقَتْلِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ الْقَوَدُ بِاعْتِبَارِ ظَنِّهِ كَمَا لَوْ رَمَى إلَى شَخْصٍ ظَنَّهُ كَافِرًا فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ وَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهُ بِالشُّبْهَةِ لَزِمَتْهُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ عَمْدٌ ثُمَّ يُحْسَبُ لَهُ مِنْهَا بِنِصْفِ الدِّيَةِ لَأَنْ يَعْفُوَ الشَّرِيكُ وَجَبَ لَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى الْمَقْتُولِ فَيَصِيرُ نِصْفُ الدِّيَةِ قِصَاصًا بِالنِّصْفِ وَيُؤَدِّي مَا بَقِيَ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.

فَعَلَى هَذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْله؛ لِأَنَّ جَهْلَهُ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ أَنَّ الِاجْتِهَادَ يَقْتَضِي أَنْ يَثْبُتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى الْكَمَالِ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ مَا لَا يَتَجَزَّأُ لِاثْنَيْنِ يُوجِبُ ثُبُوتَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَامِلًا كَوِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ لَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ بَقَاءَ وِلَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ بَعْدَ عَفْوِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِلْآخَرِ أَمْرٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ كَمَا أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَمْرٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ.

وَذَكَرَ فِي التَّهْذِيبِ أَنَّ الْقِصَاصَ إذَا ثَبَتَ

<<  <  ج: ص:  >  >>