(بَابُ الْعَزِيمَةِ) (وَالرُّخْصَةِ)
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
ــ
[كشف الأسرار]
وَصَوْمُ الْعَشَرَةِ لَا يُتَصَوَّرُ أَدَاؤُهُ فِيهِ فَلِضَرُورَةِ عَدَمِ الْإِمْكَانِ جَعَلَهُ الشَّرْعُ مُتَفَرِّقًا فَلَمْ يَجْعَلْ الْكُلَّ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ لِيَكُونَ جُمْلَةً بَلْ جَعَلَ الْبَعْضَ قَبْلَ أَيَّامِ النَّحْرِ مُتَّصِلًا بِأَيَّامِ النَّحْرِ وَالْبَعْضَ بَعْدَهَا لِيَكُونَ مُتَّصِلًا بِطَرَفَيْ أَيَّامِ النَّحْرِ لَمَّا تَعَذَّرَ الْأَدَاءُ فِيهَا فَيَكُونُ التَّفْرِيقُ ضَرُورَةَ الِاتِّصَالِ بِطَرَفَيْ وَقْتِ النَّحْرِ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ وَلَمْ يُشْرَعْ فِيهِ لِأَنَّهُ وَقْتُ ضِيَافَةِ اللَّهِ عِبَادَهُ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَدَاءُ السَّبْعَةِ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ قَبْلَ الرُّجُوعِ بِلَا فَصْلٍ غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَهُ بِالرُّجُوعِ لِعُذْرِ السَّفَرِ نَظَرًا لَهُ وَمَرْحَمَةً عَلَيْهِ وَلَا يُقَالُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ خَمْسَةٌ وَبَعْدَهُ خَمْسَةٌ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مَعْقُولٌ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْقُولٍ فَفُوِّضَ إلَى الشَّرْعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[بَابُ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ]
وَلَمَّا فَرَغَ الشَّيْخُ مِنْ بَيَانٍ أَقْسَامِ الْكِتَابِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا شَرَعَ فِي بَيَانِ أَقْسَامِ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِهَا فَقَالَ (بَابُ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ)
اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْأُصُولِيِّينَ فِي تَفْسِيرِ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ جَعَلُوا الْأَحْكَامَ مُنْحَصِرَةً عَلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ وَبَعْضَهُمْ لَمْ يَجْعَلُوهَا كَذَلِكَ. فَبَعْضُ مَنْ حَصَرَهَا عَلَيْهِمَا قَالَ الْعَزِيمَةُ الْحُكْمُ الثَّابِتُ عَلَى وَجْهٍ لَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةُ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ. وَالرُّخْصَةُ الْحُكْمُ الثَّابِتُ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ لِمُعَارِضٍ رَاجِحٍ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِجَوَازِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ حُكْمٌ ثَابِتٌ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ إذْ الْأَصْلُ فِي الْحُرَّةِ عَدَمُ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا. وَبِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَالْقَتْلِ قِصَاصًا فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ ثَابِتٌ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ إذْ الْأَصْلُ حُرْمَةُ التَّعَرُّضِ فِي مَالِ الْغَيْرِ وَنَفْسِهِ وَلَا يُسَمَّى شَيْءٌ مِنْهَا رُخْصَةً.
وَقِيلَ الْعَزِيمَةُ مَا سَلِمَ دَلِيلُهُ عَنْ الْمَانِعِ، وَالرُّخْصَةُ مَا لَمْ يَسْلَمْ عَنْهُ. وَبَعْضُ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ الِانْحِصَارَ قَالَ الْعَزِيمَةُ مُلْزِمُ الْعِبَادِ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَالْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ وَنَحْوِهَا وَالرُّخْصَةُ مَا وَسِعَ لِلْمُكَلَّفِ فِعْلُهُ لِعُذْرٍ فِيهِ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرَّمِ. فَاخْتَصَّتْ الْعَزِيمَةُ بِالْوَاجِبَاتِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، وَخَرَجَ النَّدْبُ وَالْكَرَاهَةُ عَنْ الْعَزِيمَةِ مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ فِي الرُّخْصَةِ فَلَمْ يَنْحَصِرْ الْأَحْكَامُ فِي الْقِسْمَيْنِ. وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ الْعَزِيمَةُ مَا لَزِمْنَاهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ أَصْلًا بِحَقِّ أَنَّهُ إلَهُنَا وَنَحْنُ عَبِيدُهُ فَابْتَلَانَا بِمَا شَاءَ.
وَالرُّخْصَةُ إطْلَاقٌ بَعْدَ حَظْرٍ بِعُذْرٍ تَيْسِيرًا. ثُمَّ أَوَّلُ كَلَامِ الشَّيْخِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ اعْتَبَرَ الِانْحِصَارَ حَيْثُ قَالَ، وَأَحْكَامُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِبَاحَةَ وَالْكَرَاهَةَ مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ كَوُجُوبِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فَتَدْخُلَانِ فِي الْقِسْمَيْنِ، وَكَذَا تَفْسِيرُهُ الْعَزِيمَةَ وَالرُّخْصَةَ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا فَإِنَّ حَاصِلَ مَعْنَاهُمَا عَلَى مَا ذُكِرَ الْعَزِيمَةُ مَا هُوَ أَصْلٌ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالرُّخْصَةُ مَا لَيْسَ بِأَصْلٍ. أَوْ الْعَزِيمَةُ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْعَوَارِضِ وَالرُّخْصَةُ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى انْحِصَارِ الْأَحْكَامِ فِيهِمَا كَمَا تَرَى لَكِنَّ آخِرَ كَلَامِهِ، وَهُوَ تَقْسِيمُهُ الْعَزِيمَةَ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لَمْ تُذْكَرْ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ، وَلَا فِي تَقْسِيمِ الرُّخْصَةِ فَكَانَ مُشْتَبَهًا. إلَّا أَنْ يُقَالَ الْأَحْكَامُ مُنْحَصِرَةٌ فِي الْقِسْمَيْنِ عِنْدَهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوَّلُ كَلَامِهِ، وَالْإِبَاحَةُ دَاخِلَةٌ فِي الْعَزِيمَةِ لِوَكَادَةِ شَرْعِيَّتِهَا كَالنَّفْلِ إذْ لَيْسَ إلَى الْعِبَادِ رَفْعُهَا لَا أَنَّ الشَّيْخَ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي تَقْسِيمِ الْعَزِيمَةِ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ بَيَانُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الثَّوَابُ مِنْ الْعَزَائِمِ وَذَلِكَ فِي الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ دُونَ الْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute